مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

أنكر الأصوات

أحد الدعاة خطف حديثاً للرسول عليه الصلاة والسلام جاء فيه بما معناه: (نحن أمة أميّة)، وفسرها بأن ليس من شأنها الحساب ولا الكتاب، ويؤكد على تفسيره هذا قائلاً: فالحساب والكتاب المذكوران محرمان ومنهي عنهما - انتهى.
متناسياً أن أول كلمة، من أول آية، من أول سورة في القرآن الكريم هي: (اقرأ).
وكل هذا الحماس والغضب من فضيلة الداعية ناتج عن أن هناك اقتراحاً بالاستعانة بعلم الفلك وتحديد منازل القمر، إلى جانب الرؤية الشرعية بالعين، لتثبيت دخول شهر رمضان وغيره من الشهور، وخلط - حفظه الله - بين الفلك الذي يستطيع مثلاً أن يعرف كسوف الشمس وخسوف القمر، لا بالقرن أو السنة أو الشهر أو اليوم فقط، ولكن أيضاً بالساعة والدقيقة.
وغم عليه أو التبس عليه، وخلط (عبّاس على دبّاس)، غير مفرق - هداه الله - بين (علم) الفلك، وبين (خرافة) التنجيم، وهذه هي مشكلة بعض الدعاة الذين (يخطفون الكبيبة من فم القدر)، حسب تعبير أهل البلد.
وما أبعد الفرق بين هذا الداعية العصبي الذي لا أريد أن أسميه إشفاقاً عليه، وبين داعية آخر انتقل إلى رحاب الله، ولي شرف أن أسميه وهو عبد الرحمن السميط، الذي نذر عمره وقضى ردحاً من الزمن متجولاً في أدغال أفريقيا المكدّسة بالفقر والمرض والشقاء، ناشراً دعوة الإسلام المتسامح المبتسم، ليس بالكلام بالميكروفونات ورفع الصوت وتطيير العيون وهز الكروش، ولكن بخفض الصوت، لأنه يعلم ما هو أنكر الأصوات، كما أنه لا يتعالى ولا يتعالم على غيره ولا يسير كالطاووس، كان دائماً يسير هوناً وإذا خاطبه الجاهلون قال سلاماً.
ومآثر السميط كثيرة، ونظراً لمحدودية هذا العمود، أضع أمامكم كمثال هذا الموقف منه لتلك الحادثة التي صادفها في دولة كينيا.
فقد شاهد طفلة صغيرة هاربة مع أمها بسبب الصراعات والجوع، فعطف عليها، وعوضاً من أن ينفحها بعض النقود ويمضي في حال سبيله، احتواها وهدأ من روعها ومسح دموعها وكفلها، وأدخلها مدرسة ابتدائية، وتعهد بالإنفاق عليها - على شرط أن تتفوق في دراستها.
ومرّت الأعوام وهو يتواصل معها ومع والدتها إلى أن أنهت مرحلتها الثانوية، ثم التحقت بكلية الطب وتخرجت فيها، وعملت في المستشفيات وأثبتت وجودها إلى درجة أنهم عينوها نائبة لوزير الصحة، ولا أستبعد أن تصبح وزيرة يوماً ما.
وأشار عبد الله السميط نجل الداعية الراحل، إلى أن ثمار نجاحات زينب - وهذا هو اسمها - لم تكن تقدر عند والده بثمن، مؤكداً أنه كان يفرح بنجاحها ويعتز بذلك أكثر مما كان يفرح ويعتز بنجاح أبنائه وبناته.