عبير مشخص
صحافية وكاتبة سعودية في مجال الفنون والثقافة
TT

فينيسيا... الجميلة المتعبة

تقترن مدينة فينيسيا أو البندقية بالأحلام والأساطير والأقنعة المزركشة والجندول، وكيف لا فهي مدينة ساحرة بطرقاتها الضيقة المتعرجة، وبمياه البحر التي تداعب أرصفتها، وبأهلها الودودين... في صيف فينيسيا تختلط نسمات الهواء برائحة زهور الياسمين، وفي كل مرة أزور فيها المدينة يزداد حبي لها، وأيضاً يزداد إحساسي بتأثير السياحة عليها.
في زيارتي الأخيرة لها بدت فينيسيا لي كما لم أرها من قبل، كانت جميلة كعادتها ولكنها كانت مرهقة، متعبة تترنح من ثقل آلاف السياح الذين يجوبون ميادينها التاريخية وأزقتها.
حتى عندما تشتد شمسها ويغلب الجو الحار نسائم البحر اللطيفة، لا يتوقف السياح بل يستمرون حاملين عصا «السيلفي» مثبتة على هواتفهم، ويتقدمهم رائدهم حاملاً شمسية أو عصا أو علماً ملوناً حتى لا تتوه خطاهم. البعض يأتي قادماً على متن العابرات العملاقة، ويكتفون بقضاء ساعات في المدينة. ويشتكي أصحاب المحال والمطاعم من أن هذا نوع من السياح لا ينفق النقود كثيراً، هذا غير التلوث الذي يصاحب مرور السفن عبر الجزر الصغيرة المتناثرة.
في أيام الذروة السياحية يصل عدد السياح في فينيسيا لـ60 ألف زائر، رقم يتعدى عدد سكانها المقدر بـ55 ألف شخص. تذمر سكان المدينة العائمة كثيراً من غلبة السياح على مدينتهم، وقالوا إنها تحولت من مدينة تاريخية لمدينة ترفيهية، فهم وإن كانوا مصدر رزق لمطاعمها ومحلاتها، إلا أنهم أيضاً يضرون المدينة بالتلوث الذي تسببه البواخر التي يصلون عليها، وبإلقاء النفايات في كل مكان، وهي تجذب الفئران والطيور مثل الحمام والنورس.
تعاني البندقية من «السياحة الزائدة»، وهو مصطلح قد يكون قد اخترع من أجلها. في بداية شهر مايو (أيار) لجأ عمدة المدينة لإقامة حواجز تفصل السياح عن سكان المدينة خلال أحد مهرجاناتها. لم يرق الأمر للسكان وتظاهر عدد كبير منهم، قال أحدهم: «نحن ملاك مدينتنا وليس العمدة ولا السياح... فينيسيا تحتضر».
وليست فينيسيا وحدها التي تعاني من ازدياد حركة السياحة، فأمستردام وباريس وغيرها من الوجهات العالمية المحبوبة تعاني أيضاً. ولكن فينيسيا مختلفة... فهي تعاند الزمن وشبح الغرق في مياه البحر وهو مصير تنبأ به العلماء.
وقد يكون من أسباب مظاهر الإعياء على الجميلة العائمة أيضاً الإجراءات البيروقراطية وتساهل الجهات المسؤولة في العناية بالمدينة. ذكر تقرير نشر مؤخراً في صحيفة «الغارديان» أن القصور الرائعة على حافتي القنال الكبير في فينيسيا تعاني من تقشر طلائها الأحمر الذي اشتهرت به، والسبب يعود لأن السلطات المحلية متمسكة بالأساليب القديمة لترميم المباني القديمة، ومنها الطلاء المكلف، وهو ما يمثل عبئاً على بلدية المدينة.
ولكن قد يكون هناك بصيص من الأمل فقد أطلقت بلدية المدينة حملة لتوعية السياح والزوار للحفاظ على المدينة؛ حثتهم فيها على احترام المدينة، والتحلي بالمسؤولية خلال تجوالهم فيها. كما منعت السلطات افتتاح أي مطاعم للأكل السريع و«تيك أواي» لمدة ثلاثة أعوام. ولعل ذلك القرار يقلل من أغلفة السندوتشات والقوارير الفارغة التي يتركها السياح في الطرقات وعلى سلالم الكنائس وتحت الجسور العتيقة. ولكن معركة فينيسيا مع السياح ومع الزمن قائمة.