إميل أمين
كاتب مصري
TT

عن الأحادية الأميركية والقمة الكندية

حين يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترمب في مدينة مالابي الكندية وجهاً لوجه مع قادة الدول الست الأكثر قوة وصلابة اقتصادياً حول العالم فإنه يكاد يشعر بإحساس غريب من نوعه... المعزول اقتصادياً، إن جاز التعبير، وفي دلالة على نتائج وتبعات سياساته عبر أقل من عامين في مقعده الوثير في البيت الأبيض.
يبدو الرئيس ترمب كأنه لا دلالة له على المنهج التعددي. إنه يؤمن بـ«أميركا الأولى» دون أدنى منافسة، كأنه يطبق نفس النهج السياسي لرؤى المحافظين الجدد الذين طرحوا في نهايات التسعينات من القرن العشرين رؤيتهم لأميركا المهيمنة على مقدرات العالم لمائة عام قادمة، في ما عُرف بـ«القرن الأميركي» المأمول.
الجمعة والسبت هما ختام لحساب الحصاد الترمبي اقتصادياً على الأقل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاقتصاد والسياسة وفي الخلفية منهما العسكرة حلقات متصلة يصعب فصلها، والشعوب تمشي على بطونها في حاضرات أيامنا وليس الجيوش فقط، كما كان الأمر في زمن نابليون بونابرت صاحب تلك العبارة الشهيرة.
مثيرٌ شأن الرئيس ترمب؛ إذ تراه كأنه يعلن حرباً تجارية على الحلفاء الرئيسيين لبلاده من الأوروبيين والكنديين على حد سواء، سيما بعد أن أقر بأنه ماضٍ قدماً في عملية فرض الرسوم الجمركية على واردات الألمنيوم والصلب من الاتحاد الأوروبي، بعد انتهاء مهلة الإعفاء التي استمرت مدة شهرين.
يكاد المتابع لخط سير ترمب يؤمن بأن الرجل يحمل دعوة لإحياء نعرة «قومية اقتصادية» لن تلبث في القريب العاجل أن تنحو إلى صيغة سياسية تولّد انفصاماً في الروح الأطلسية بين غرب الأطلسي وشرقه، وبين كندا وجارتها الجنوبية، وبخاصة في ضوء ردّات الفعل الأوروبية المتوقعة، والتي عبّر عنها وزير المالية الألماني أولاف شولتز حين أشار إلى أن القرار الأميركي جانبه الصواب، ويمكن اعتباره خرقاً للقواعد الدولية المتعلقة بتحديد التعريفات الدولية، وأن الاتحاد الأوروبي سيردّ بقوة.
يمكن للمرء أن يتفهم عقلية الرئيس الأميركي الذي يتحسس جيبه قبل أن يقدح زناد عقله عادةً كشأن صانع الصفقات، غير أن التغيرات الجيوسياسية والانصهارات التكتونية في السياسات العالمية تخبر المحيطين بترمب بأن قرارات رئيسهم تفتح الأبواب واسعة لإحياء أورآسيا من جديد، ذلك الحلم الذي لم تنفك روسيا تحدّث به، وتسعى في طريقه، والصين بين الأوروبيين والروس تتحين فرصاً اقتصادية تارة وسياسية تارة ثانية لتكتب اسمها على رقعة أقطاب القرن الحادي والعشرين شاء من شاء وأبى من أبى لا سيما من قبل العم سام، فهل هذا ما يسعى الرئيس ترمب إليه؟ وأي خسائر فادحة تصيب أميركا – ترمب من جراء سياسة أحادية لا تتصف بأي براغماتية مستنيرة من جراء إصراره على رفض منهج «تعددي، قوي ومسؤول وشفاف» الذي تحدث عنه رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، وهي صيغة لا يمكن القول إن ترمب سيقبل بها في ضوء ما عُرف عنه من الذهنية الأحادية التي لا تدرك فلسفة الموءامات؟
أحد الأسئلة المهمة والحساسة التي تطرح ذاتها بذاتها على المحللين السياسيين لرسم ووسم العلاقة بين واشنطن وبروكسل مؤخراً: «هل تخوض العاصمة الأميركية اختبار قوة ضد القارة العجوز؟ وإذا كانت تفعل ذلك فهل هو فعل مقصود منها ومن دون مواراة أو مداراة على المسار الأميركي كتابع وليس كحليف، سيما في ما يتصل بالقضايا الخلافية الكبرى؟
يبدو أن موقف الأوروبيين من إيران هي نقطة جوهرية في خلفية سياسات ترمب لجهة أوروبا، ما يعني أن الذين أوصلوا ترمب إلى البيت الأبيض وضعوا في تقديراتهم الاستشرافية محاولات الأوروبيين الخروج من بيت الطاعة الأميركي السياسي.
الأوروبيون وفي المشهد الإيراني، على سبيل المثال، يفضلون بقاء الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس ترمب، وهم يعلمون أن لا قِبَلَ لهم بمواجهة واشنطن اقتصادياً، ولا مقارعتها في الساحة الدولية في هذا الصدد، لكن أي أحقاد سوف توغر صدور الأوروبيين من قبل منهجية ترمب؟ وما خيارات القوة الأوروبية التي سيرد بها على واشنطن؟
من باريس يعلن الإليزيه أنه «إذا تمادت الولايات المتحدة في مقاومتها، فإنه علينا ألا نضحي بمبادئنا ومصالحنا من أجل وحدة ظاهرية»... هل يمكن أن يلفت مثل هذا التصريح إلى ما ورائيات المشهد الأوروبي الأميركي بعد قمة كندا؟ وإلى أين سيحطّ حلف الأطلسي رحاله بعد السجالات التي ستدور همساً في المخادع وسينادى بها لاحقاً من على السطوح؟
يحاجج الأميركيون من أنصار الرئيس ترمب بأن الرجل منقذ وليس مخرباً، منقذ لبلاده عطفاً على محاولاته انتشال النظام الاقتصادي الدولي من وجه أولئك الذين أطلق عليهم غير مرة «الغشاشين» الذين يهضمون حقوق الأميركيين وفي المقدمة منهم الصينيون، وتالياً لا يألو جهداً في توجيه سهامه إلى الألمان الذين يصدّرون سياراتهم لأميركا دون أن يستوردوا منها مركبات أميركية، وإلى الكنديين الذين يغرقون البلاد بحديدهم الصلب، ويرى ترمب في البلدين «مشروعات للانتهازيين»، ما يعد تجاوزاً في لغة الخطاب السياسي الأميركي المعاصر، جعل الألمان والكنديين يستغربون اليوم من الرئيس ترمب وفي الغد يكون لهم شأن آخر.
يذهب لاري كادلو مستشار ترمب الاقتصادي، إلى أنه قد تكون هناك خلافات بين أميركا وحلفائها، لكنه يقلل من شأنها بوصفها نوعاً من «الشجار العائلي»، وأن جل ما يطالب به ترمب هو المعاملة بالمثل.
لكن الحدث بأبعاده وما ورائياته يؤشر إلى فجوة تتعمق بين ضفتي الأطلسي سيكون لها ردّات فعل جيوبوليتكية مثيرة، وفي وقت يعاد فيه تشكيل العالم من جديد.
على أنه وقبل الانصراف يتبقى سؤال جوهري: هل غيّرت سياسات ترمب الاقتصادية في عاميه الماضيين أوضاع «أقنان الأرض» من الأميركيين؟
قبل بضعة أيام كان فيليب ألستون مقرر الأمم المتحدة بشأن الفقر وحقوق الإنسان، يدعو السلطات الأميركية إلى توفير حماية اجتماعية قوية ومعالجة المشكلات الكامنة وراء ذلك بدلاً من «معاقبة الفقراء ومحاصرتهم».
لقد منح ترمب كبار الأغنياء والشركات الكبرى مكافآت مالية غير متوقعة زادت من التفاوت الطبقي، ما يفيد بأن الحروب الاقتصادية الترمبية على هذا النحو لن توفر عدالة اجتماعية للبؤساء في أرض العم سام.
الخلاصة... من يخبر ترمب ما قاله آدم سميث «دعه يعمل دعه يمر»؟!