لؤي عبد الإله
كاتب عراقي مقيم في لندن
TT

كأس العالم: حرب عالمية من نوع خاص

مع انطلاق بطولة كأس العالم الحادية والعشرين في روسيا، تحضرني هذه المشاهد، التي تتكرر أمامي هنا في لندن: كل أربع سنوات، تتسلل غالباً أعلام إنجلترا، التي لا يكاد يراها الزائر في مناسبات أخرى، إلى نوافذ البيوت والمقاهي والسيارات. تحدث عادةً هذه الظاهرة قبل شهر تقريباً من بدء الدورة، حالَ التأكد من بلوغ إنجلترا النهائيات. كأن هذه المبادرة الفردية أو العائلية تصبّ في نهر يتسع يوماً بعد يوم من المبادرات المماثلة؛ شبكة من الإيماءات والمشاعر المشتركة تنمو بدأب يوماً بعد يوم، محررةً أصحابها من أَسْر العزلة عن الآخرين والاندماج المنتشي في تلك الذات الجمعية التي تصبح الآصرة المجددة التي تجمع أبناء الأمة الواحدة: إنها الروح القومية التي تسعى إلى كسب تقدير الأمم الأخرى واعترافها بها.
لعل هذه الحالة تعيشها كل تلك البلدان المحظوظة التي نجحت في كسر الحاجز الفاصل بينها، وبين المساهمة ببطولة كأس العالم التي تجري كل أربع سنوات في أحد بلدان العالم. وهي عبر منتخباتها تسعى وبشكل لا شعوري إلى تحقيق مجدها الوطني بالفوز بكأس العالم، وإذا لم يكن ذلك ممكناً فاحتلال الموقع الثاني أو الثالث أو الرابع سيكون مطمحها. إنه في نهاية الأمر ترتيب مواقع الأمم رمزياً عبر لعبة كرة القدم.
الآن وحتى بعد مرور اثنين وخمسين عاماً على كأس العالم لعام 1968، ما زالت تماثيل أبطال المنتخب الإنجليزي الذين فازوا بالكأس منتشرة في العديد من الأماكن في إنجلترا، جنباً إلى جنب مع تماثيل أولئك القادة العسكريين الذين حققوا انتصارات حربية مصيرية في القرون السابقة مثل الأدميرال هوراشيو نيلسون، الذي قاد معركة الطرف الأغر ضد الأسطولين الفرنسي والإسباني عام 1805. أو مثل الدوق ويلنغتون الذي انتصر على جيش الإمبراطور بونابرت في معركة ووترلو البرية. فمن بين اللاعبين الإنجليز الأحد عشر الذين فازوا بالبطولة حصل خمسة منهم على ألقاب وأوسمة ملكية عليا، بمن فيهم مدرب المنتخب البريطاني ألفريد رامسي الذي منحته الملكة إليزابيث الثانية، بعد الفوز بفترة قصيرة، لقب «سير» الذي يعد اعترافاً كبيراً بإنجازه الرياضي.
ما تمكن ملاحظته خلال الأشهر القليلة التي تسبق بدء الحرب الكروية (والتي تستمر ما يقرب من شهر) أن تلك المشكلات العميقة التي يعيشها هذا البلد المشارك بالبطولة أو ذاك، يتم نسيانها أو تجميدها أو دفنها في أعماق الأرض، سواء كانت تلك أزمات اقتصادية وسياسية أو فتناً وخلافات أهلية، إذ يصبح قطاع واسع من كل من هذه المجتمعات متمقصاً حالة شخص واحد، عيناه مرفوعتان لفريقه الذي سيمثله بغضّ النظر عن عدد سكان هذا المجتمع أو ذلك، فبلد مثل الصين الذي يزيد عدد سكانه على بلد صغير مثل كوستاريكا بـأكثر من 300 مرة، له نفس التمثيل على ساحة الوغى: كلا المنتخبين يلعب بأحد عشر لاعباً، لكن طاقة التضامن الناجمة عن الفوز بين المشجعين تتناسب طردياً مع عدد سكان كل بلد فائز، والحال ينطبق أيضاً على مشاعر الخيبة الناجمة عن الخسارة.
هناك تماثل مثير للانتباه بين محاربي العصور القديمة والأحد عشر لاعباً. كان المحاربون في الماضي شريحة من المجتمع تتمتع بتقدير عالٍ وامتيازات كبيرة (حال لاعبي كرة القدم اليوم). وكيف لا وهم حماة مدينتهم من الأعداء، بفضلهم تزدهر حياتهم وحياة عائلاتهم، وبفضلهم تكسب الأمة مجدها.
وإذا كان الشعب يتماهى مع محاربيه في الماضي، فإنه اليوم يتماهى مع لاعبيه الأحد عشر. وإذا كانت الأسلحة التي يستخدمها الجيشان المتقاتلان في الماضي متماثلة تقريباً، ولا تعدو أن تكون سيوفاً ورماحاً، فإن الأسلحة التي يستخدمها لاعبو كرة القدم اليوم لا تتجاوز الأرجل والرؤوس.
لقد أدّى تطور الأسلحة الهائل في القرن العشرين إلى قتل عنصر «اللعب» في المعارك، فما عادت الشجاعة والتعاون والبراعة الفردية والجماعية العنصر الحاسم أمام الأسلحة الذكية التي تسيّرها عن بُعد حواسيب مبرمجة، والانتصار أصبح حليف من يملك أسلحة أكثر تطوراً من غريمه.
وعلى العكس من ذلك يظل هناك تماثل بين أي معركة عسكرية من معارك الماضي، وأي معركة كروية منذ ابتكار كرة القدم في نهاية القرن التاسع عشر، فالانتصار تحدده نفس العوامل مثل وجود القائد المحنك الذي يكون دوره حاسماً، والمهارات الحِرَفيّة التي يتمتع بها اللاعبون، ودرجة الثقة بالنفس على المستوى الفردي والجمعي، وأخيراً وليس آخراً، تلك الروح التي يتصف بها هذا الجيش أو ذاك أو هذا المنتخب أو ذاك، والذي هو قد يكون ذا أصداء لروح الشعب الذي يمثله، فنحن اعتدنا على تسمية المنتخب الألماني «الماكينة» التي تتحرك تروسها وعجلاتها وكوابسها بإيقاع واحد شبيه بالآلة: قوة منسّقة هائلة تجمع ما بين العقل والأعصاب والقدمين والإرادة. بينما اعتدنا على مشاهدة المنتخب الإيطالي الذي طوّر الأساليب الدفاعية أقصى ما يمكن مع انتهاز الفرص الضئيلة للانقضاض على الخصم في لحظة فقدانه التركيز: إنه الدهاء في أفضل تجلياته. كذلك هو الحال مع المنتخب البرازيلي الذي استثمر رقص السامبا المحلي إلى أقصى حدوده في حركة لاعبيه وانسيابيتهم الجسدية الساحرة!
الصفة الثانية التي تجمع ما بين الاثنين هو طابع الطفولة الذي تتحكم فيه غريزة اللعب، وتأكيد الذات عبر التفوق على الآخر.
إنه العبث الذي يجمعهما: في الحالة الأولى، كوارث وضحايا وخراب ومآسٍ، وفي الحالة الثانية لا خسائر على الإطلاق، بل شعور بالانتماء إلى جنس واحد اسمه «الإنسان العاقل»، يمكّن من تنظيم حفل جنوني ممتع كل أربع سنوات لتفريغ قسط كبير من مشاعر الإحباط والكآبة واليأس لدى الأفراد والشعوب على حد سواء، والعودة إلى سحر الطفولة التي لا تهدف إلا إلى اللعب والاستمتاع المجردين.
فلذلك، وأمام تراث حربين عالميتين استهلكتا حياة ما يقرب من 100 مليون إنسان، وأمام ميل الأمم الغريزي إلى تحقيق تفوقها عبر الحرب على غيرها، تأتي بطولة كأس العالم حلاً معقولاً لا يكلف ضحايا أو خسائر مادية ولا يترك وراءه ضغينة لا علاج لها بين الأمم، إذ إنها توفر للأمم الخاسرة (التي يجسدها 11 لاعباً) فرصة المحاولة بعد أربع سنوات كي تتجاوز قصورها وتحقق لها مكاناً تحت الشمس بين الأمم المنتصرة الأخرى.
وبفضل هذا الابتكار وتنظيمه، كل أربع سنوات، أصبحت كل الأمم على كوكبنا متكافئة من حيث إمكانية الفوز بكأس العالم ذات يوم!