داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

كوريا والولايات المتحدة: تعادل من دون أهداف

استبق الرئيسان الأميركي والكوري الشمالي ضربة البداية في مونديال موسكو، وظلا يحتلان مساحة مهمة من الصفحات الأولى لصحف العالم. وهما يعلمان بالتأكيد أن فترة مباريات المونديال تحجب الأضواء عن تفاصيل أي أحداث أخرى في العالم. وثمة سابقة في هذا المجال حين استضافت مدينة ملبورن الأسترالية في عام 1956 المونديال تزامناً مع العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر، فأصيب العالم بالحول المؤقت؛ عين على ملبورن والأخرى على قناة السويس، ولم تتركز الأنظار على ما حدث في أرض الكنانة إلا بعد أن انتهى المونديال.
ما الذي جناه العالم من «مونديال» سنغافورة؟ إلى ما قبل شهرين كان «التخريف» باحتمال عقد اجتماع بين ترمب وأون يدعو إلى الضحك. العدو الأول لكوريا الشمالية هو الولايات المتحدة، والعدو الأول للولايات المتحدة هو كوريا الشمالية، واللقاء بينهما مستحيل، فما الذي حدث؟ كان اجتماع قرية «بانمونجوم» الحدودية الكورية بين الرئيسين الكوريين الشمالي والجنوبي هو مفتاح قاعة اجتماع سنغافورة. فلولا هذا الاجتماع التمهيدي ما كان يمكن تجهيز الأرض لاجتماع العدوين اللدودين، والمصافحات الساخنة بينهما. لم أسمع أن الرئيس أون تحدث باللغة الإنجليزية، ولا سمع أحد الرئيس ترمب يتحدث باللغة الكورية. كان حواراً بالعيون والابتسامات والمصافحات أكثر منه حواراً بالشفاه. والكتاب يُقرأ من عنوانه. إنه لقاء ودي على طريقة مباريات كرة القدم التجريبية قبل بدء نزال المونديال.
وإذا كان الباب موصداً أمام الرأي العام لمعرفة خفايا هذا اللقاء، وهي قليلة، فإن الشبابيك يمكن أن تنفع. بحثت مطولاً عما قالته وسائل إعلام بيونغ يانغ، فوجدت أن وكالة الأنباء الكورية الشمالية قالت إن «القمة التاريخية» أثمرت دعوة الرئيس ترمب لكيم جونغ أون لزيارة الولايات المتحدة ودعوة جونع للرئيس الأميركي لزيارة كوريا الشمالية. وهذا الخبر على بساطته وتقليديته وبروتوكوليته ما زال يعتبر حتى الآن نوعاً من الخيال العلمي الذي نشاهده في أفلام هوليوود عن الكواكب والمجرات وحروب النجوم. وأقصى ما استنتجته الوكالة الكورية قولها، إن اللقاء غير المسبوق «تحول جذري». بينما قال ترمب في تغريدة مسائية «إن العالم خطا خطوة كبيرة إلى الوراء مبتعداً عن كارثة نووية محتملة». وهو قول يذكرنا بما قاله رائد الفضاء الأميركي نيل آرمسترونغ وهو يضع قدمه على تراب القمر «إنها خطوة صغيرة للإنسان وقفزة عملاقة للبشرية».
أما صحيفة «رودنغ سينمون» الرسمية الكورية الشمالية، فكان مانشيتها الرئيس: «لقاء القرن يفتح عهداً جديداً في تاريخ العلاقات» بين البلدين العدوين. وزينت صفحتها الأولى بصور المصافحة التاريخية بين ترمب وأون أمام صف من الأعلام الأميركية والكورية الشمالية. وبعد أن كان ترمب يصف أون إلى ما قبل شهر واحد بـ«الشرير» وصفه علناً بالقائد كيم، ووجّه له الشكر لإطلاق سراح الرهائن الأميركيين الذين كانوا محتجزين في كوريا الشمالية.
وليعذرنا القارئ، فنحن معشر الصحافيين، نبحث عن الإبرة المفقودة في كوم من القش. فالرئيس الكوري لم يكن يريد من اللقاء أكثر من رد «الاعتبار الدولي» له. وترمب كان واقعياً؛ فلم يطلب شحن القنابل النووية الكورية معه على طائرته الرئاسية في الطريق إلى واشنطن. أما الوثيقة المشتركة التي وقعها الرئيسان فما زلنا لم نر نتائجها بعد؛ لأن الرئيسين ما زالا في مرحلة «استكشاف النوايا»، وهو ما استلزم مبادرة «حسن نية» من ترمب بأن يوقف المناورات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، مقابل وعد شفهي مكرر من كيم جونغ أون بالتخلص من الأسلحة النووية. وفي هذا الصدد، كان ترمب أكثر فاعلية حين قال «إنه من غير المناسب إجراء تمارين عسكرية مع كوريا الجنوبية لأنها استفزازية»، وهو ما فوجئت به حكومة كوريا الجنوبية. وبخاصة أن هناك أكثر من ثلاثين ألف جندي أميركي في كوريا الجنوبية لحمايتها من جارتها الشمالية. وتلقفت الكرة طوكيو، وهي شريكة في المناورات العسكرية، فقال وزير الدفاع الياباني أنودايرا، إن هذه التدريبات والوجود العسكري الأميركي يلعبان «دوراً أساسياً في أمن شرق آسيا».
لم تبالغ وكالة الصحافة الفرنسية بقولها «إن لقاء سنغافورة يشكل نجاحاً كبيراً لنظام شديد العزلة وخاضع لعقوبات دولية شديدة للغاية، ويرغب منذ زمن طويل في كسب شرعية ما».
بدا الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون من مشاهد لقاء سنغافورة، وقبله لقاء الحدود مع كوريا الجنوبية، إنساناً بسيطاً وودوداً وخجولاً. وفوجئ الناس أن هذا الرجل، الذي كان يضحك ملء شدقيه كلما أطلق صاروخاً بعيد المدى أو فجّر قنبلة نووية أو هيدروجينية، لم يضحك في الاجتماعين ضحكة واحدة فيها قهقهة! وكنا سنرضى ونكون سعداء جداً حتى لو «قهقه» باللغة الكورية الشمالية!
لا معنى طبعاً لما زعمته صحيفة «سانكي» اليابانية المحافظة من أن اجتماع سنغافورة «استعراض من تلفزيون الواقع» أو إعلان مشترك «بلا مضمون». فقول مثل هذا ستتراجع عنه الصحيفة لو عقد مستقبلاً اجتماع آخر غير مسبوق بين الرئيس كيم جونغ أون ورئيس وزراء اليابان شنزو آبي.
مختصر مفيد: كان لقاء الرئيسين في سنغافورة فرصة ليتأكد جونغ من أن شعر ترمب ليس باروكة، وفرصة مماثلة ليتأكد ترمب من أن جونغ لا يستطيع أن يرفض العرض الذي قدمه له، مثلما قال النجم السينمائي الأميركي مارلون براندو في فيلم «العّراب». نحن لا نصدق أن جونغ صدّق النوايا الأميركية، ولا ترمب صدّق النوايا الكورية. فجونغ ما زال يرتدي بدلة جده الرئيس الكوري المؤسس كيم إيل سونغ، وترمب نفسه كان مؤيداً لحلّ المشكلة الفلسطينية بقيام دولتين جارتين، ثم بعد اعترف بأن القدس «عاصمة» إسرائيل ونقل سفارته إليها.
دعونا نتفرج على المونديال... فهناك أربعة فرق عربية تلعب كرة قدم عالمية ولا يعنيها أمر اجتماع سنغافورة.