سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

فتات «كأس العالم»

في عالم يرتفع عدد الجياع فيه إلى أكثر من 800 مليون شخص، وتعلن الهيئات الدولية أن المعوزين سيصبحون قريباً ربع سكان الكوكب، ويموت المئات سنوياً غرقى تبتلعهم أسماك البحر وهم يبحثون عن ملاذ آمن وفرصة عمل. يتقاضى لاعب كرة قدم، قد لا يحمل شهادة تكميلية، مرتباً شهرياً قدره ثلاثة ملايين يورو، وتتنافس الفرق على الاستحواذ على هؤلاء حتى ارتفعت بورصة الحصول عليهم ثلاثة أضعاف خلال خمس سنوات فقط. فأي أرقام فلكية تخبئها الأعوام المقبلة، للاعبين يحكى عنهم كأنهم عقارات في سوق، وأسهم في بورصة المال ولا يرف لأي منهم جفن! ويصل المدخول السنوي للاعب كبير مثل ميسي أو نيمار إلى 100 مليون يورو، إذا ما احتسبنا ما يضاف إلى الراتب من إعلانات ومكافآت وجوائز وهدايا، وهذا يكفي لرفع المعنويات وتضميد الكرامات.
مليار يورو يدفعها المعلنون الفرنسيون لاستثمار الثواني التي تباع بين الشوطين في واحدة من مباريات كأس العالم، مع أن البطالة تطال ملايين السكان. فالتذاكر التي تباع في الملاعب، لا تشكل سوى 10 في المائة من المداخيل، والربح كل الربح منا نحن المتفرجين المستسلمين أمام الشاشات، حيث أصبح بيع البث هو رأس المال وجوهره.
لم تكن مناسبات كأس العالم إلا ظواهر من جنون وغضب وتعصب. ويفترض من الرياضة أنها وجدت لتهذيب النفس وترقية الأخلاق كما الموسيقى. فهي فن وغايات الفنون التسامي بالمشاعر. ومن يوم صارت «الساحرة المستديرة» تدر المال، ومشتهى للمستثمرين، فقدت براءتها الأولى إلا في عيون المشجعين المساكين الذين يمولون من دون علم منهم هستيريا الثروات المحمومة، ولو ببيع الغالي، وعصر الجيوب. ورغم أن الأزمات المتوالية تضرب الصناعة والزراعة والإعلام والإعلان غير أن الرياضة صامدة، ومكاسبها ترتفع وتتعاظم بشكل مذهل يصل إلى 600 مليار دولار سنوياً، أي أكبر من ميزانية دولة، وحصة كرة القدم نصفها أو أقل بقليل، لشعبيتها الكبيرة، وصيتها العتيق لدى الفقراء وفي أحياء القرى وأزقتها. وبفضل برامج التنحيف التي لا تفتر والتخويف من البدانة، والشيخوخة المبكرة، وترقق العظام، والخرف الذي لا بد سيتسلل إلى الدماغ ما لم تكن التمارين جزءاً من حياة البشري، تنتعش كبريات الشركات المصنعة لآخر صيحات الأحذية، ما يصلح للركض، غير ما يستخدم للقفز أو التنس، أو ضرب الكرة. وما بين الملابس المريحة ومعدات اللعب تحولت شركات إلى إمبراطوريات مالية تتحكم في مزاج الناس.
ورغم أن الدول تستخدم كل نفوذها وإمكانياتها لكسب تنظيم كأس العالم، وتتخاصم مع حلفائها، أو تعادي أقرباءها للفوز بهذا الشرف، فعوائدها تبقى محدودة مقارنة بما تصرفه على البنى التحتية والاستضافة، وما تتحمله من عناء التنظيم وحفظ الأمن. فمقابل 13 مليار دولار تكبدتها روسيا قد لا تربح أكثر من ملياري دولار، وعلى مدى سنوات، رغم أنها رغبت في ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، حين ركزت على مدن صغيرة لم تكن معروفة لإحيائها والترويج لها سياحيا. وما أهدرته البرازيل على هذه المناسبة أثار ضجة كبيرة بين فقرائها بسبب ما شاب المشاريع وقتها من فساد وصفقات. وما ستصرفه قطر قد يصل إلى 30 مليار دولار من غير الواضح ما ستكون فائدته بالتحديد. لكن يبقى التنافس والتناتش محموماً، لما يبغيه كل بلد من معنويات ودعايات، وتلميع الصورة، وربما، كسب بعض الاستثمارات التي تأتي أو لا تأتي.
وأميركا مع فوزها بالتنظيم لعام 2026 بشراكة المكسيك وكندا، في ملف واحد رغم الحروب الاقتصادية بين هذه الدول، يشير بوضوح إلى أن الأهمية للدعاية واستعراض القوة أكثر منها الكسب الحقيقي.
فقبل أن تحصل أميركا على مرادها كان أستاذ جامعة نيويورك فيليب ألستون، وهو مقرر الأمم المتحدة بشأن الفقر وحقوق الإنسان يحذر من أن ما يقارب الـ13 في المائة من الأميركيين فقراء وأكثر من 18 مليوناً يعيشون في فقر مدقع، وأن طفلاً من بين كل ثلاثة في حال بائسة. وهؤلاء جميعاً ليست كرة القدم من ستغير أحوالهم، وتنقذ معاشهم.
فما الذي يبيعه بالفعل «الاتحاد الدولي لكرة القدم» (الفيفا) لمجانين الكرة، غير الوهم، والتسلية المكلفة التي صارت تفتقد لأدنى شروط البراءة، بعد فضائح الصفقات والسمسرات، ومليارات الوسطاء، وتجارة البث التلفزيوني التي لا سابق لها في التاريخ؟ ثمة رابحون قلة من كرة القدم على رأسهم «الفيفا» التي تستولي على أكثر من ثلثي الأرباح، والأندية العملاقة التي صارت شركات استثمارية لكبار الأغنياء، ولم يعد لها أي صفة وطنية أو أدوار اجتماعية مفيدة تذكر. ففي إنجلترا كل النوادي البارزة بيعت لأجانب، والحال يشبهه في فرنسا وغيرهما. وباقي الأرباح للشركات الرياضية. والقليل الذي يتبقى من فتات موائد تجار الكرة في بورصة رأس مالها أقدام اللاعبين الذهبية، يوزع على الموظفين والعاملين في المجال. وربما أن الفوائد من شهر المونديال أقل كثيراً مما نتصور، وإن كان التركيز هو على من سيربح الكأس هذه الأيام. أما ما وراء التهريج من غسل أموال وفساد وتهرب ضريبي فليس هذا وقته. وقد يحتاج الأمر سنوات طويلة قبل أن يطرح السؤال حول جدوى كل هذا الفرح بزيادة ثروة الأثرياء على حساب الفقراء بحجة الألعاب!