لم تمنع الأجواء «المكهربة» التي سادت في قمة مجموعة السبع في كندا، في 8 الجاري، الرئيس الفرنسي من استمرار التواصل مع نظيره الأميركي دونالد ترمب. فقد بادر إيمانويل ماكرون إلى إجراء اتصال هاتفي مع سيد البيت الأبيض، يوم الجمعة الماضي، واستبق ذلك باتصال مماثل مع نظيره الإيراني حسن روحاني. وفي الحالتين، كان الملف النووي الإيراني موضع بحث مطول ما يعكس استمرار الرغبة الفرنسية في السعي لإيجاد «مخرج ما» من الأزمة الإيرانية يحافظ في الوقت عينه على العلاقات مع واشنطن وعلى المصالح الفرنسية و«الأوروبية» في إيران.
بيد أن المساعي الفرنسية لم تُفضِ حتى الآن إلى أي نتيجة ملموسة، لا بل بدأت بعض علامات «الخيبة» تبرز في تصريحات المسؤولين الفرنسيين وآخرهم، أمس، وزير الاقتصاد برونو لو مير، الذي كان أحد أشد الداعين إلى الوقوف في وجه القرارات الأميركية وذلك باسم «السيادة الاقتصادية الأوروبية».
وفي لقاء مع القناة الإخبارية «بي إف إم»، أعلن لو مير أن «غالبية الشركات الفرنسية لن تستطيع البقاء (في إيران) لحاجتها إلى أن تدفع لهم أثمان البضائع التي تسلمها أو التي تصنعها محلياً، والحال أنه ليست هناك مؤسسات مالية أوروبية سيدة ومستقلة».
وخلاصة الوزير أن الأولوية تكمن في «إيجاد هذه المؤسسات التي توفر قنوات التمويل للشركات (الأوروبية أو لأي بلد آخر) بحيث يعود لنا، نحن الأوروبيين أن نختار بحرية وسيادية الأطراف التي نريد أن نتعاطى التجارة معها». وبأي حال، لا يريد وزير الاقتصاد الفرنسي أن تلعب واشنطن «دور الشرطي الاقتصادي في العالم».
واضح من تصريحات الوزير الفرنسي أن الرسالة الثلاثية التي بعث بها وزراء الاقتصاد والمال في فرنسا وبريطانيا وألمانيا إلى وزير الخزانة الأميركي يطلبون فيها «استثناء» الشركات الأوروبية من العقوبات التي ستُفرض عليها في حال حافظت على علاقاتها الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع طهران بعد انتهاء المواعيد التي حددتها واشنطن، لم تَلقَ آذاناً صاغية في البيت الأبيض.
وقالت مصادر فرنسية رسمية إنها «غير متفائلة» بالحصول على نتائج إيجابية قبل موعد السادس من أغسطس (آب) حين سيبدأ العمل بالعقوبات المطبَّقة على الشركات الضالعة في صناعة السيارات، بينما العقوبات الخاصة بالطاقة ستطبَّق ابتداءً من الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) القادم.
وأضافت هذه المصادر أنه «إزاء التشدد الأميركي وسعي واشنطن إلى فرض أقصى العقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي، سيكون من الصعب على واشنطن إعفاء الشركات الأوروبية من العقوبات التي سيتم تطبيقها على أي شركة مخالفة مهما تكن جنسيتها -بما فيها الشركات الأميركية» بموجب القوانين الأميركية.
بناءً عليه، بدأ عدد من الشركات الفرنسية يتهيأ للخروج من إيران، وأهمها حتى الآن اثنتان: الشركة النفطية «توتال»، وشركة «بي إس آي» المصنِّعة لسيارات بيجو وسيتروين.
ثمة قناعة متنامية في فرنسا بأن «العلاقات الشخصية والخاصة» التي سعى ماكرون لبنائها مع ترمب لم تجنِ منها باريس أي فائدة. ذلك أن الأخير «جاهل» بالمطالب كافة التي تمسك بها الرئيس الفرنسي وأهمها أربعة وهي: البقاء داخل الاتفاق النووي مع إيران وليس نقضه، والمحافظة اتفاقية المناخ الموقَّعة في باريس نهاية عام 2015 وليس الخروج منها، والامتناع عن فرض رسوم مرتفعة على الألمنيوم والصلب الأوروبيين المصدرين إلى الولايات المتحدة، وأخيراً الامتناع عن نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وبالطبع لم تنفع التهديدات الفرنسية و«الأوروبية» في السياقات الأربعة، ما دفع ماكرون إلى اتهام الرئيس الأميركي بأنه «ينفّذ أجندة سياسية داخلية»، أي بعيداً عن القواعد التي يتعين أن تحكم العلاقات الدولية والإدارة متعددة الأطراف للأزمات في العالم.
رغم ذلك كله ما زالت باريس تأمل بـ«إنجاز ما» يحافظ على الاتفاق النووي مع إيران رغم خروج واشنطن منه من خلال السعي للمحافظة على «جبهة» واحدة من الدول الخمس الأخرى الموقعة على الاتفاق وهي، إلى جانب فرنسا، بريطانيا وألمانيا وروسيا والصين. وفي بيان الإليزيه الصادر عقب الاتصال الهاتفي بين ماكرون وروحاني، جاء أن الأول «شدد على عزم (الخمسة) على استمرار العمل على تنفيذ اتفاق فيينا بكل أبعاده»، مضيفاً أن ماكرون نقل لروحاني صورة عما يقوم به الخمسة واقترح عليه اجتماعاً على المستوى الوزاري للجنة المشتركة الخاصة باتفاق فيينا «في الأسابيع القادمة».
وفي المقابل، حث روحاني على أن تستمر طهران في تنفيذ «التزاماتها (المنصوص عليها في الاتفاق) من غير أي غموض» في إشارة إلى ضرورة امتناعها عن العودة إلى تخصيب اليورانيوم، وهو ما هدد به الجانب الإيراني الذي لوّح مؤخراً بالعودة إلى التخصيب في حال اقتنع الإيرانيون بأن الجانب الأوروبي لن يكون قادراً على توفير «المنافع» التي يتضمنها الاتفاق لإيران.
حقيقة الأمر أن باريس -ومعها الأوروبيون كافة- تبدو اليوم وأكثر من أي وقت مضى، أي خصوصاً بعد التوتر الواضح الذي يشوب العلاقة مع الإدارة الأميركية، عاجزة عن انتزاع أي تنازل من الجانب الأميركي، وبالتالي غير قادرة على الاستجابة للمطالب الإيرانية رغم وعيها بأن طهران بحاجة ماسّة إلى الاستمرار في الاتفاق.
وتجدر الإشارة إلى أن طهران أمهلت الأوروبيين 60 يوماً لتوفير «الضمانات» المالية والاقتصادية والاستثمارية التي تحتاج إليها. وما يهم الجانب الإيراني ليست الشركات الأوروبية الصغرى والمتوسطة بل كبريات الشركات القادرة على الاستثمار وتوفير ريادات صناعية ناهيك بالمصارف لتمويل الاقتصاد والعمليات التجارية.
والحال أن هذه الفئة الأخيرة هي الأكثر تعرضاً للعقوبات الأميركية العابرة للحدود إما لسبب انغراسها في الولايات المتحدة وإما لاستخدامها الدولار في معاملاتها وإما لأسباب أخرى بعضها بالغ الغرابة. ولم تنسَ هذه الشركات مبلغ المليارات التسعة الذي دفعه مصرف «بي إن بي باريبا» للخزانة الأميركية بسبب محاولته الالتفاف على عقوبات واشنطن في السنوات الأخيرة. ولذا، فإن تفعيل قانون أوروبي يعود تاريخه لعام 1996 وغرضه حماية الشركات الأوروبية من القوانين الأميركية، لا يبدو أنه نجح في إقناعها في السوق الإيرانية.
خيبة فرنسية من العقوبات الأميركية على إيران
وزير الاقتصاد الفرنسي: لا نريد لواشنطن أن تلعب دور الشرطي الاقتصادي في العالم
خيبة فرنسية من العقوبات الأميركية على إيران
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة