حتى الطهاة البابليين القدماء كانوا يعلمون قيمة كتاب الطّهي الجيد. ومثل طهاة اليوم، إلى حد كبير، كان البابليون الأوائل يفضلون وصفات اليخنة العامرة باللحم الشّهي، والأعشاب والخضراوات الجذرية، ولكن على عكس الحال اليوم، لم تكن وصفات تلك الأطباق تُعرض إلى جانب صور ملونة في كتاب ذي غلاف سميك، بل كانت تُنقش على سطح ألواح من صلصال باستخدام إبر رفيعة دقيقة.
لم يتبق سوى أربعة ألواح تحتوي على وصفات طهي منسوبة إلى البابليين القدماء، وتعدّ أقدم وصفات معروفة على مستوى العالم، وربما كانت لتظل غير مستخدمة ومحفوظة إلى الأبد داخل صندوق عرض ضمن مجموعة بابل في جامعة «ييل»، لولا الدعوة إلى إقامة فعالية للطّهي في جامعة نيويورك في بداية شهر مايو (أيار)، أعدّت فيه عدد من الفرق أصنافاً من الطّعام من مختلف أنحاء العالم ومن عصور تاريخية متباينة. حسب ما ذكر موقع صحيفة «ييل نيوز» الأميركية.
كانت أغنيت لاسين، الأمينة المساعدة لمجموعة بابل في جامعة «ييل»، وتشيلسيا ألين غراهام، أخصائية التّصوير الرّقمي في معهد الحفاظ على التراث الثقافي، ضمن الفريق الذي بذل مجهوداً كبيراً لإعادة تقديم ثلاث وصفات لليخنة خطوة بخطوة، وكانت تلك الوصفات مدوّنة على أحد الألواح في محاولة للاقتراب قدر الإمكان من شكل الأطباق التي كان أسلافهم يعدّونها ويتناولونها منذ نحو أربعة آلاف سنة.
تقول لاسين: «كانت فكرتنا هي النّظر مرة أخرى في الترجمات القديمة، ومعرفة ما إذا كنّا قادرين على فهم المصطلحات وتلك الوصفات على نحو أفضل»، مشيرة إلى أن تلك الوصفات تعود إلى العصر ذاته وربما إلى المكان نفسه أيضاً. وتضيف قائلة: «ربما لم يكتبها شخص واحد، لكن يجمع بينها الاهتمام ذاته بوصفات الطّهي».
استضاف «معهد دراسة العالم القديم» وقسم التغذية ودراسات الطعام في جامعة نيويورك، تلك الفعالية التي حملت اسم «شهية للماضي». ودُعيت سبع فرق للمشاركة في تلك الفعالية. اختار البعض التركيز على الجوانب الأثرية والنّصية للمطبخ الذي مثّلوه، في حين قدّم البعض الآخر تأويلات عصرية لأطباق قديمة من الصين القديمة، ومنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وزمن الرومان والقرون الوسطى. وقدّم كلّ فريق في آخر يوم للفعالية ثمرة بحثهم التعاوني الجماعي في منتدى للتذوق تم دعوة الحاضرين فيه إلى تذوق عيّنة من أصناف الطعام التي أعدّوها.
تقول لاسين إنّ من أعاد تأويل الوصفات هو غوجكو براجاموفيك، أحد أعضاء فريق جامعة «هارفارد»، في حين أعدّت كل من بيا سورنسين، الأخصائية في كيمياء الطعام، وباتريشيا غونزاليز، من مركز «باسك» للطهي، الوصفات وطريقة طهيها واختبارها مرات كثيرة طوال فصل الربيع، وذلك في معمل العلوم والطّهي في جامعة «هارفارد». تقول لاسين: «كانت دراسة العمليات الكيماوية عنصراً رئيسياً في إعادة تأويل وشرح الوصفات. لقد مثّل ذلك تعاوناً بين المباحث العلمية المختلفة حيث رُبط بين النّصوص القديمة والكيمياء وعلم الطّهي».
أعدّ فريق «هارفارد» - «ييل» ثلاث وصفات من لوح واحد: وصفتا يخنة من لحم الضأن، أحدهما مع البنجر، والأخرى مع اللبن وكعكات من القمح، ووصفة نباتية معززة بخبز الشعير. يشير تنوع المكونات وطريقة الإعداد المعقدة وأدوات الطّهي المطلوبة لإعداد تلك الوجبات، إلى أنّها كانت مخصّصة للقصر الملكي أو للمعبد، فهي من المطبخ الرّاقي لبلاد ما بين النهرين، على حد قول لاسين. وأضافت أنّ قليلاً من الطهاة هم من يستطيعون قراءة الكتابة المسمارية، لذا كانت الوصفات تُسجّل في أكثر الأحوال لتوثيق الممارسات الحالية لفن الطّهي.
تقول غراهام: «لقد منحتنا تلك الفعالية الفرصة للتواصل الحقيقي مع الذين عاشوا في ذلك الزمن. يشعر المرء من خلال تجربة بعض العمليات التي كانوا يتّبعونها لطهي تلك الوصفات وتذوق النكهات التي كانت شائعة ورائجة في ذلك الوقت، بأنّه أقرب إلى الثقافة والناس، وأعتقد أنّ ذلك يساعدنا في رواية قصتهم. من المثير للاهتمام التفكير في كل الأدوات المتوفرة لدينا حالياً، وإدراك أنّ طهي تلك الوصفات بات أسهل كثيراً بالنسبة إلينا عمّا كان بالنسبة إليهم».
مع ذلك، تقول لاسين إنّ الأمر لم يجرِ من دون تحدّيات، وتوضح أنّ «إضافة إلى عدم توفر بعض المكونات التي كانت مستخدمة ومتوفرة في ذلك العصر، كان هناك لوحان في حال سيئة حيث وكان بهما فجوات كبيرة. كذلك كانت هناك صعوبة في ترجمة بعض الكلمات التي تظهر في الأصل الأكادي بسبب عدم ظهور تلك الكلمات كثيراً في نصوص أخرى لدينا، ممّا يجعل من الصّعب فكّ شفرتها وفهمها».
تضيف لاسين قائلة: «من المهم للغاية فهم الملمس والمذاق المفترض للطّعام. لم نكن نعلم ما الذي نبحث عنه. عندما كنا نعيد تقديم إحدى الوصفات كنت أفكر كثيراً في أنّهم كانوا يقومون بالأمر بطريقة خاطئة، وأنّي لم أكن لأعدّ الوصفة بهذه الطريقة، ثم عندما تغلي المكونات قليلا تتحول إلى شيء لذيذ وشهي». مثل الذين يطهون في المنزل اليوم، لم يكن البابليون يذكرون دائماً المعايير الدقيقة للمكونات، لذا أعدّ الفريق اليخنة «للتذوق» كما تشير لاسين.
في الوقت الذي أُعدّت تجربة بعض الوصفات البابلية قبل الفعالية، كانت هناك وصفة جديدة بالنسبة إلى الفريق، وقد أُعدّت للمرة الأولى خلال الفعالية. تحمل الوصفة اسم «التفكيك»، وهي وصفة يخنة نباتية معدّة من الكراث والبصل. تقول لاسين إنّها لا ترى أي سبب محدد واضح يدعو إلى تسمية تلك الوصفة بهذا الاسم، لكن تشير إحدى الفرضيات إلى وجود علاقة بين الاسم وأحد مكونات اليخنة، وهي القطع المجففة من الحبوب المجروشة التي كانت «تشبه الكعك المتماسك الذي يُضاف إلى العصيدة ليذوب بها». ربما كان ذلك هو الـ«تفكيك» الذي كانوا يشيرون إليه. ربما أيضاً تعني الكلمة حرفياً الطعام الذي يشعر الإنسان بالارتياح على حد قول لاسين. وتضيف: «طهي اليخنة من الأنشطة الإنسانية الأساسية، وأعتقد أنّ هذا من الأسباب الرئيسية التي دفعتنا نحو المشاركة في هذا المشروع. هناك جانب إنساني حقيقي في الأكل والطّعام وتذوّق الأشياء، وهذا ما أردنا استكشافه من خلال إعادة تقديم تلك الوصفات. قد تختلف طريقة الإعداد قليلاً عن الطريقة التي أعدّوا بها تلك الوصفات، وقد يختلف مذاق المكونات المستخدمة كذلك، لكنّنا اقتربنا من وصفة لم يتذوقها أحد منذ نحو أربعة آلاف عام».
8:18 دقيقة
ما الذي كان يأكله البابليون الأوائل؟
https://aawsat.com/home/article/1306816/%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%A3%D9%83%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%84%D8%9F
ما الذي كان يأكله البابليون الأوائل؟
فريق مشترك من جامعتي «ييل» و«هارفارد» يجرب إعداد وصفات طهي خاصة بهم
ما الذي كان يأكله البابليون الأوائل؟
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة