طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

نيران تحت الرماد

تقول أم كلثوم في رائعتها «كل ليلة وكل يوم» كلمات مأمون الشناوي وتلحين بليغ حمدي «كل نار تصبح رماد مهما تقيد - إلا نار الشوق يوم عن يوم تزيد». الحقيقة ليست فقط نيران الشوق هي التي تتأجج، ولكن نيران الكراهية، نلاحظها أيضاً وهي تتحين الفرصة للإعلان بقوة عن لسعات لهيبها.
دائماً هناك تفاصيل تمر بنا، ونادراً ما تستوقفنا، لنُطل منها بزاوية رؤية تتيح لنا أن نقترب من الإمساك بالحقيقة، ألم يقولوا «الشيطان يكمن في التفاصيل»! عندما تتسع حدود «البرجل» نكتشف أن النقطة المحورية التي انطلقنا منها صارت دائرة مترامية الأطراف، وما كان يبدو متناهياً في الصغر، تستطيع بعدها الإمساك به كأنك تتابعه بعدسة «ميكروسكوب».
لم تكن مجرد هزيمة نالها الفريق القومي المصري في «المونديال»، ولكنها أشارت إلى أن الاحتجاج العاصف اجتاح عدداً كبيراً من النجوم. الكراهية كامنة، وهي مثل الفتنة لعن الله من أيقظها، الحقيقة أن النجوم الذين غضبوا من التشهير بهم عبر مواقع «السوشيال ميديا» هم الذين أسرفوا في الهجوم بعد ذلك على الجمهور. هناك شيء عميق لا ينبغي أبداً التعامل معه ببساطة. ما حدث بالضبط هو ما يمكن وصفه بالكلمة العامية «التلكيك»، أي أنهم كانوا يتحينون حدوث شيء لكي تُصبح الفرصة مهيّأة للإعلان عما يجري في الصدور. لم يعد يستشعر الناس أن الفنان يحركه همٌّ اجتماعي يؤثر على اختياراته بقدر ما أن هناك شيئاً أبعد من كل ذلك. بوصلة إحساس الناس تقودهم إلى أن الفلوس التي يتقاضها الفنان صارت هي فقط التي توجه اختياره.
وهو ما أشار إليه من قبل عمر الشريف في أحد حواراته التلفزيونية، وانقلبت الدنيا بعدها عليه حيث قال «فلوس الفنانين حرام»، لم يقصد قطعاً المعنى الديني الخاص بالحلال والحرام، ولكنه أراد التعبير بأن المبالغة في الأجور الذي يتلقاها نجوم التمثيل تعد حراماً. هذا من المؤكد يوضح جانباً واحداً فقط من الصورة. هناك أيضاً غياب الهم الاجتماعي، حيث لم يعد يشكّل الإحساس بالآخر أي موقف حقيقي لهم، نادراً ما تعثر على النجوم في أي نشاط بعيد عن الوقوف أمام الكاميرا، بينما نرى كبار نجوم العالم يوجدون في كل الملمّات بالحضور والتبرع المادي. نجومنا في العادة لا يتجاوز نشاطهم المنصات السياسية المباشرة التي تريدها الدولة.
المسافة الشاسعة بين النجم وما يجري في تفاصيل الحياة عمّقت المشكلة. يتذكر المخضرمون، ولست واحداً منهم، أن هناك فريق كرة القدم للفنانين كان يقوده فريد شوقي، وفي عدد من اللقاءات الكروية كانت تقام مباريات ودية مع فرق كبرى مثل الأهلي والزمالك، وكان الناس يتابعون ذلك بنوع من المرح، فهم موجودون أساساً للترويح عن الجماهير.
النجوم باتوا في الذاكرة الجماعية يقطنون أبراجاً عاجية، تحيطهم أوراق زائفة من السوليفان، لا يأكلون سوى المارون جلاسيه وانقطعت صلتهم تماماً بأكلة المصريين الشعبية الفول والطعمية «الفلافل».
النظرة السريعة والتي أراها خاطئة جداً، هي تلك التي تكتفي بتفسير الغضب على اعتبار أنه رد فعل مباشر للخروج المبكر من كأس العالم، بينما هو أبعد وأعمق من مجرد هزيمة كانت متوقعة. هناك تغير ملحوظ في بوصلة مشاعر الناس تجاه الفنانين، سواء من ذهب منهم إلى المونديال أو من ظل قابعاً في منزله. شهرة الفنانين لم تعد أسلحة لهم بل باتت توجِّه طلقاتها القاتلة إليهم!