أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

ستقودين إلى مساحات أرحب

منذ الأزل، حكم الآلاف من الأباطرة والسلاطين والملوك والأمراء والخلفاء دولاً ومساحات من هذه الأرض، لكن لم يخلد التاريخ سوى أولئك الذين صنعوا الفرق في حياة الناس، وكان اتجاه بوصلتهم إلى النور والتنوير، فتربعت أسماؤهم في ذاكرة الأجيال المتعاقبة وفاحت رائحة أمجادهم من مجلدات التاريخ.
إدارة الدول تبدو لوهلة أنها أوامر ونواهٍ تجد من يصغي إليها وينفذها بقوة السلطة، لكن آلية الحكم معقدة، وقد تكون وبالاً على صاحبها وترسم نهاية مريعة له ولدولته. قيادة الدول تتطلب شجاعة دون حد التهور، وصبراً دون حد اللامبالاة، وتواضعاً دون حد المهانة، وقوة دون حد التسلط. والحظي، وهو قلة من القلة، من تلتقي فيه هذه الخصال، وإن حصلت، فستكون الأرض التي يحكمها موعودة بالخير.
هذه مقدمة للدخول في الحديث عن العصر الجديد الذي تعيشه المملكة العربية السعودية، السعودية الجديدة كما يحب بعضهم تسميتها. والجديد فيها أنها بدلت أسساً اقتصادية كانت عماد بنائها الأول منذ المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، رحمه الله، الذي بدأ في بناء دولة حديثة معتمداً على آبار تفيض بالزيت الأسود، وأكمل من بعده أبناؤه هذا البناء. هذا الأساس تغير، وتغيرت معه أسس ثقافية وفكرية واجتماعية عبرت بآثارها السلبية على الدولة الحديثة خلال ثمانية عقود هو عمرها. حروب عالمية وأحداث مزلزلة حفت حدود المملكة أو أوشكت، امتحانات سياسية وفكرية ليست هينة مرت بها الدولة السعودية الحديثة غيرت كثيراً من التركيبة الثقافية للمجتمع السعودي، أهمها ما يسمى «الصحوة» التي ولدت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وأسست لفكر ديني متشدد وتنطع في الدين ما أنزل الله به من سلطان. ولأنها بلاد الحرمين الشريفين، فقد كانت دائماً مستهدفة من تجار الدين، فانعكس كل ذلك على المجتمع الذي كان قبلهم يمارس حياته الدينية بعقيدة نقية.
السعودية الجديدة مصطلح يشير لتغير عاملين؛ الأول اقتصادي من خلال قناعة ترسخت بأن النفط نعمة زائلة، وأن الاستثمار في العقول وما تنجبه من أفكار خلاقة لصنع اقتصاد ولود هو النعمة الدائمة. والعامل الآخر أن السعودية الجديدة اختارت أن تتبع منهج الإسلام المعتدل الوسطي، مثلما نزل بسماحته وسعته على النبي محمد عليه الصلاة والسلام منذ 14 قرناً.
ولا بد من التذكير بأن المتشددين كانوا يعتاشون من تخويف الناس في محاضراتهم وتسجيلاتهم وخطبهم حتى تضخمت حساباتهم البنكية على حساب النفوس الطيبة التي تحب الله وتخشاه، فصدقتهم واتبعت منهجهم. هؤلاء، وباعترافهم، يرون أن المرأة هي قلعتهم الحصينة، إن فلتت من أيديهم ذهبت ريحهم. ولأجل ذلك كانت معظم طروحاتهم متعلقة بالمرأة. ضيقوا عليها في العمل والدراسة وحتى داخل أسرتها. قللوا من شأنها واستصغروا عقلها وهانت عليهم حتى اعتبروها كالبيت المستأجر. يقول أحدهم إن المرأة إن تعلمت فقد تتمرد على الرجل وتحل قيوده عليها، وإن استقلت مالياً من خلال العمل، استغنت عنه فلا يعود له سلطان عليها، وإن قادت سيارتها بنفسها هربت منه! كانت هذه الأفكار والرسائل هي جل مضامين ندواتهم ومحاضراتهم وخطبهم. وهي ليست فقط نظرة استعلائية، بل استعبادية، مثلهم مثل الذي يسوّد وجهه إن بشر بالأنثى، يراها عاراً ويرجو أن يأتي من يتزوجها فتخرج من ذمته إلى ذمة غيره.
أمر عجيب كيف يمكن لأحد أن يفكر بهذا الشكل المضطرب المنحرف في وقت تسمو فيها مدارك الناس في الغرب ويزدادون علماً ونوراً حتى تجرأوا على إجراء جراحات لجنين في بطن أمه، وطمحوا إلى غزو المريخ، واستمطروا السماء، وزرعوا القلوب والعيون والأكباد.
في السعودية الجديدة، التي يحكمها الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، توجد خريطة طريق تسمى رؤية 2030. الاستراتيجية الشاملة التي جعلت المملكة موعودة بهذا التاريخ بكثير من الخير والنماء، يعيش فيه كل فرد من أفراد المجتمع ذكراً كان أو أنثى محفوظ الكرامة، في عيشة كريمة، على حد سواء في الحقوق، على حد سواء في الواجبات.
المرأة السعودية لا تحتفل بقرار السماح لها بقيادة السيارة فقط، بل هي احتفالية بالخروج من سجن الغلو الذي قيدها واستصغرها واحتقرها عقوداً. لن تهرب لأنها تستطيع أن تشغل مركبة وتسير بها، بل ستتحرر من قيود وهمية فرضتها قوى متشددة، فانتصرت لها أخيراً القيادة السياسية، بحقها في القيادة وفي استقلالية هويتها نظاماً، وفي توسيع مساحة سوق العمل لها، وتنصيبها في مواقع رفيعة. بعد أن أهانها اللئيم أكرمها الكريم صاحب رؤية 2030، وأكد لها أنها نصف المجتمع الذي يتكل عليه لتحقيق النقلة النوعية التي رسمها.
ولا تزال النساء السعوديات يطمحن ويطمعن في الأكثر، ولديهن من القناعة والثقة بولي العهد ما يشي بإحساس الارتياح، وأنها لن تقود سيارتها من بيتها إلى عملها أو إلى مدرسة أبنائها فقط، بل ستقود مع شقيقها الرجل إلى مساحات أرحب، شريكة له في عجلة التنمية، بقوة إرادتها والثقة بها.
[email protected]