د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

العروبة وكأس العالم

كان الحزن غلّاباً طوال الأسبوع الماضي لدى الشعوب العربية جميعاً، بعد أن بدا أن الفرق الأربع العربية في كأس العالم قد انهزمت الواحدة بعد الأخرى، وبات قريباً من المستحيل أن تصل واحدة منها إلى الدور الثاني في المنافسة العالمية الكبرى. هذه الحالة لا يوجد الكثير مما يبررها، فهذه هي المرة الأولى في ما أعلم التي وصل فيه هذا العدد من الفرق العربية إلى نهائيات كأس العالم.
وفي ما أعلم أيضاً أنه لا توجد سوابق كثيرة للعبور من دوري المجموعات الأولى إلى الدور التالي، إلا عندما فعلها الفريق الجزائري مرة، والفريق السعودي مرة أخرى، وبعدها وقبلها لم تحدث مرات أخرى. ومع ذلك فإن هذا العدد من الفرق، وهذا العدد من المشجعين، ومع كل ذلك هذا القدر من الأعلام والألوان والحروف والشعارات والفنون والأهازيج العربية، لم تحدث بهذا الحجم ولا ذلك القدر من قبل. الأهم من ذلك أن المتابعة الشعبية جرت منذ بدء المسابقة للفرق العربية جميعاً، فكان هناك الغضب عند الهزيمة، وبعضاً من الحماس والسرور عندما كان الأداء مشرفاً، وسواء كانت المشاعر غاضبة أو حزينة أو حماسية فلم تكن فقط لدواعٍ «وطنية» تخص فريق كل دولة، ولكنها كانت «قومية» أيضاً تخص الحالة العربية عامة في كأس العالم. وفي العموم فإن ما شعر به المواطنون، وأذاعوه بالغضب أو بالحزن أو بالحماس أو السخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي عَكَس نوعاً من الإحباط في توقعات جامحة حدث أنها لم تتحقق.
والثابت هو أن الدول العربية الأربع التي وصلت إلى كأس العالم، جميعها يعيش مرحلة من الإصلاحات الجذرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي بطبيعتها ترفع سقوف التوقعات، سواء كان ذلك في ارتفاع مستويات المعيشة، أو إتاحة الفرص، أو احتمالات الفوز في كأس العالم. والجدير بالذكر هنا أن كثيراً من هذه التوقعات كان مبالغاً فيه، وفيه الكثير من التعجل حيث إن الأمر يحتاج دوماً إلى الكثير من الصبر والقدرة على الوصول إلى نهائيات الكأس في دورات متوالية تسمح بوجود أجيال من اللاعبين المتمرسين على خوض هذه النوعية من السباقات. فليس سراً على أحد أن كأس العالم في جوهرها هو تجمع أو نادٍ للدول الأوروبية واللاتينية، ومنها تكون المرشحة للفوز، ومنها من تحصل على كأس العالم. ولعل وجود أربعة فرق عربية لمصر والسعودية والمغرب وتونس كانت هي المفاجأة الجديدة في دورة روسيا 2018؛ بينما لم تستطع لا الولايات المتحدة ولا إيطاليا ولا الصين ولا دول أخرى كبيرة مثل الهند أن تكون في هذا المحفل الدولي المهم.
ولكن وأياً كانت النتائج العربية المؤسفة، فإن المكسب الكبير من الذهاب إلى كأس العالم ربما يكون الحصول على نوعين من الثقافة: الأولى الثقافة الرياضية التي تعترف بالمكسب والخسارة وتجاوز الهزيمة بالاستعداد مرة أخرى للمسابقة القادمة. ويصح هذا في كرة القدم كما يصح في الدورات الأولمبية، كما هو واجب في المسابقات المحلية والإقليمية. والأخرى أن اللعبة ذاتها بما فيها من جاذبية شعبية ربما تعلّم الشعوب كثيراً من الدروس القابلة للتطبيق ليس فقط في المباريات المحلية، وإنما في تحقيق التقدم والإصلاح بصفة عامة.
وأولاً، فإن لعبة كرة القدم تُعلي من شأن القانون والقواعد الحاكمة للعبة من خلال «حَكَم للساحة» ومساعدين على الجانبين، وحَكَم رابع للإرشاد والتنظيم والتدخل عند الحاجة، والآن حَكَم «فيديو» للفصل في الأمور الملتبسة والتي تستعصي على النظر والحكم السليم. مثل ذلك كله، مضافة إليه المقاييس المعطاة لمساحة الملعب وشكله واتساع المرمى فيه، وتعريفات الخطأ و«ضربة ركنية» و«ضربة جزاء»؛ كل ذلك يمثل ما يسمى قواعد اللعبة، وهي الأمور الضرورية واللازمة لأي عملية من عمليات الإصلاح الجاد لشؤون أخرى.
وثانياً، أن اللعبة تقتضي نوعاً من اللياقة البدنية العالية، والتي تعني أن يكون اللاعب في نهاية المباراة في حالة صحية وبدنية، كتلك التي بدأ بها المباراة حتى يحقق نصراً مستحقاً أو يتجنب حالة الانهيار البدني في الدقائق الأخيرة للعب. وفي عمليات إصلاح الدول فإن اللياقة البدنية تأخذ شكل مجموعة من الأساسيات مثل كفاءة البنية الأساسية، ومدى مرونة التشريعات المنظِّمة لعمليات الدخول والخروج من السوق، وتوافر الخلطة المناسبة من أشكال الطاقة، والتوازن المالي للدولة، وتوازن التنمية بين الأقاليم المختلفة. كل ذلك يجعل الدولة مهيأة لخوض عملية التنمية «المستدامة» التي لا تصعد ثم تهبط، وإنما تتقدم طوال الزمن.
وثالثاً، فإن «المهارة» ربما تكون هي التي تجعل للعبة متعتها وشهرتها الذائعة، وهذه تعني القدرة على التحكم في الكرة منذ الاستقبال حتى اختراق خطوط الخصم، وجعل المباراة كلها تجري في نصف الملعب الآخر. في مثل ذلك فإن المهارة كامنة في اللعب كما أنها مطلوبة من المدرب الذي يدرب ويجعل من اللاعب ليس مشروعاً فردياً للعبقرية، وإنما جزءاً من استراتيجية جماعية لتحقيق الفوز. في الدول فإن السياسة تقوم بهذا الدور، وبشكل حاسم عندما يكون جوهر السياسة هو التغيير وعدم القبول بالأمر الواقع، وهو يحدث من خلال الموهبة في الزعامة والقيادة، وأكثر من ذلك إقناع الشعب بأن لكل فرد فيه دوراً في مشروع تقدم الدولة.
ورابعاً، فإن كلمة «التركيز» تكاد تكون أكثر الكلمات استعمالاً في لعبة كرة القدم، وفي كأس العالم خاصة، وهي تعني قدرة اللاعب على توظيف ما تعلّمه وما وهب له وما تدرّب عليه في الحركة وإصابة الهدف. «التركيز» هو عملية ذهنية في المقام الأول بحيث لا يتشتت ذهن اللاعب بعيداً عن الهدف؛ وبعد ذلك فهي عملية للتحكم في الأعصاب وحركة الجسد، واستكشاف المساحات والفرص في مساحة الملعب كله. مثل ذلك يحدث أيضاً في الأمم المختلفة والتي تنجح في صياغة مستقبلها مثل مشروعات ورؤى 2030 في السعودية ومصر بحيث لا تنحرف الدولة عن المسار الذي اختارته وتبقى دون تشتيت في اتجاه الأهداف التي حددتها.
كرة القدم هكذا، مدرسة كبيرة للشعوب للتعلم ليس فقط كيف تكون الدولة بين الرواد في عالم كرة القدم، وإنما كيف تكون قادرة على التقدم والفوز بكؤوس كثيرة.
حالة الحزن وخيبة الأمل التي شعرت بها الشعوب العربية يمكن فهمها فقط في حدود الرغبة في الحصول على ما هو أفضل؛ ولكن ما تحقق بالوصول إلى هناك لا بأس به في هذه المرحلة، المهم ألا يكون الوصول هذه المرة بعيداً عن الوصول مرة أخرى. التكرار لا يعلّم «الشطّار» فحسب وإنما يخلق ثقافة عامة للروح الرياضية، وللقواعد العامة للتقدم البشري الذي يعني وضع الأمور في نصابها الصحيح دون مبالغة غير مفيدة. عظمة الأمم تُقاس دوماً بقدرتها على النهوض من جديد، بقدر ما تُقاس بما تحققه من أهداف في مرمى كرة القدم أو سير التاريخ، وتلك هي المسألة!