عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

كفى حرباً!

كانت هذه هي الرسالة التي أبلغها عدد من القادة الأفارقة والمسؤولين الدوليين إلى الأطراف المتحاربة في جنوب السودان، التي جعلت بلدها الوليد يتجاوز الصومال ليحتل رسمياً صدارة قائمة الدول الفاشلة في العالم. رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد كان واضحاً في نقل هذه الرسالة للقادة الجنوبيين المتقاتلين، في بدء الاجتماع الذي عُقِد بين رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت ونائبه السابق وعدوه اللدود رياك مشار، في أديس أبابا، الأسبوع الماضي، برعاية منظمة «إيقاد»، قبل أن تنتقل الاجتماعات بينهما إلى الخرطوم.
الرسالة لم تأتِ من فراغ، إذ إن الضغوط ظلَّت تتصاعد على الأطراف المعنية نتيجة الحرب الأهلية الطاحنة التي اندلعت عام 2013، بسبب الصراع على السلطة بعد عامين فقط من إعلان استقلال دولة الجنوب، وراح ضحيتها 300 ألف قتيل، حسب بعض التقديرات، إضافة إلى أكثر من ثلاثة ملايين نازح. دول الجوار كثفت من ضغوطها وتحركاتها لإنهاء القتال، ومجلس الأمن الدولي مدَّد عقوباته على دولة الجنوب، وحذَّر من إجراءات وعقوبات على عدد من مسؤوليها ما لم تتوقف العمليات القتالية بحلول 30 يونيو (حزيران) الحالي. كذلك أعلنت واشنطن أن صبرها قد نفد إزاء استمرار الحرب، وهددت بمزيد من الإجراءات والعقوبات بحق قيادات جنوبية.
الظروف الضاغطة على الأطراف هي التي مهّدت للإعلان في الخرطوم، أمس، عن اتفاق للسلام ينص على وقف «دائم» لإطلاق النار يبدأ سريانه خلال 72 ساعة، والعمل على ترتيبات لفتح ممرات الإغاثة، وإطلاق سراح المعتقلين، وسحب القوات. كما ينص الاتفاق على دعوة الاتحاد الأفريقي لإرسال قوات لضمان وقف إطلاق النار، والمساعدة في ترتيبات جمع السلاح من المواطنين، في الوقت الذي تعمل فيه الأطراف على خطوات لجعل الجيش والأمن أجهزة قومية بعيداً عن الحسابات القبلية.
السؤال الآن هو: هل ينجح هذا الاتفاق في تحقيق ما فشلت فيه اتفاقات أخرى، آخرها الاتفاق الموقَّع في أغسطس (آب) 2015، الذي انهار بعد بضعة أشهر؟
الاتفاق الجديد يبقى فضفاضاً ومجرد خطوة في طريق طويل محفوف بالمشكلات؛ فالنسخة الإنجليزية من نقاط الاتفاق الإطاري التي جرى تداولها قبل إعلان أمس تعطي لمحة عن العقبات المقبلة، خصوصاً فيما يتعلق بإجراءات تقاسم السلطة، وهي لُبّ الصراع في الأزمة الراهنة، وتبقى مع الصراعات القبلية عقبة أمام تحقيق السلام. الجناح المتشدد من المحيطين بسلفا كير أعلن صراحة عدم قبوله بإشراك رياك مشار في السلطة، واعتبره مسؤولاً عن كثير من المحاولات الانقلابية في الحركة، وسبباً في الحرب.
هناك كلام عن توافق على أن تكون هناك ثلاث «عواصم» في جوبا وملكال وواو بشكل مؤقت لتوزيع أجهزة الحكم بينها، وتسهيل تقاسم السلطة. إضافة إلى ذلك يُفترض أن تكون هناك ترتيبات لحماية آبار النفط وإعادة تأهيلها، وهي ترتيبات يُفترض أن تشارك فيها الحكومة السودانية الحريصة على هذا الأمر لمساعدتها في مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة.
الواضح أن جولات أخرى من المفاوضات ستُعقَد لاحقاً إذا صمد اتفاق وقف النار، وهو أمر موضع شك، في ظل انعدام الثقة بين الأطراف والإرث الطويل من الصراعات القبلية؛ فالحقيقة أن الحرب في دولة الجنوب الوليدة لم تكن مفاجئة إلا في السرعة التي اندلعت بها، والكتابة كانت على الحائط لكل من أراد قراءة الوضع على حقيقته خلال الأجواء الاحتفالية التي رافقت إعلان نتائج الاستفتاء على الانفصال في يناير (كانون الثاني) 2007.
ذلك أن الحرب مع الشمال كانت هي الراية التي توحَّد خلفها كثير من الجنوبيين، وعندما انتهت، طفت على السطح كل الصراعات القبلية الكامنة التي زادتها الاكتشافات النفطية حِدّة، وغذتها أطماع السلطة بين القيادات الجنوبية. هذه الصراعات القبلية والسياسية كانت حاضرة طوال فترة الحرب ضد الشمال، وتسببت في كثير من المعارك، وفي انقسامات في صفوف الحركة الجنوبية المسلحة، سواء في فترة الأنيانيا (1955 - 1972)، أو في فترة الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قادت الجولة الثانية من الحرب في 1983، وحتى اتفاقية السلام الشامل الموقعة مع الحكومة السودانية في يناير 2005.
الزعيم البارز الراحل جون قرنق كان مدركاً لهذه الحقائق برؤية السياسي الواعي، والعسكري المتمرس، وفوق ذلك بحسه الوحدوي الذي جعله يقدم خيار الوحدة الجاذبة على خيار الانفصال. لكن أطرافاً في الجنوب وفي الشمال أيضاً كانت تدفع باتجاه الانفصال، وتتوهم فيه خلاصاً من «إرث ثقيل»، وسبيلاً لتحقيق غاياتها في السلطة. المفارقة أن كثيرين ممن دفعوا باتجاه الانفصال أصبحوا يتحسرون اليوم، ويتحدثون عن خطأ وألم خلافاً لما كانوا يقولون به وقتها. بل إن البعض يتحدث عن احتمالات عودة الجنوب في إطار دولة كونفدرالية مع الشمال، وهو أمر دونه كثير من العقبات والصعاب، وإن بقي أملاً يداعب الوحدويين في الطرفين، إضافة إلى بعض الانتهازيين الذين ينظرون إلى الجنوب بمنظار النفط فقط، ويعتبرونه سبيلاً لخروج السودان من أزمته الاقتصادية الطاحنة.
المؤسف أن كل المؤشرات تدل على أن الحرب ستبقى عاملاً للاستنزاف وعدم الاستقرار في الجنوب وفي الشمال أيضاً لفترة طويلة مقبلة.