طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

انتعش... أنت في جزيرة «فارو»!

كان الشاعر كامل الشناوي يعرف بحكم صداقته لعبد الوهاب، أن الموسيقار الكبير يحرص على زيارة باريس كل عام، إلا أنه عادةً لا يغادر باب الفندق الذي يقيم فيه، إلا ليذهب ربما لزيارة أحد أصدقائه، وعلى أكثر تقدير في حجرة أخرى في الفندق المجاور. بينما الصحافة دأبت أن تُطلق عليها رحلة عبد الوهاب الصيفية لمدينة النور، وهو في حقيقة الأمر لم يرَ شيئاً من هذا النور!
اقترح كامل الشناوي على صديقه أن يوفر نفقات وجهود السفر، مواصلاً البقاء في شقته بالحي الراقي بالقاهرة (الزمالك)، مكتفياً بأن يضع يافطة في البهو يكتب عليها «مطار باريس» وبعدها بقليل «مطار روما» ثم «مطار لندن» وهكذا.
وفي هذه الحالة أثناء تجواله في منزله سيكتشف قبل أن يصل إلى الشرفة أنه قد زار كل العواصم الأوروبية، من دون أن يدفع جنيهاً واحداً، ولا بأس أن يضع في نهاية الرحلة يافطة مكتوباً عليها «أهلاً بك في مطار القاهرة صالة وصول رقم 3»! عبد الوهاب في أوروبا هو عبد الوهاب في مصر، يكتفي بالبقاء في مكانه لا يبرحه، إلا لكي ينتقل -وعلى أكثر تقدير- من كرسي إلى كنبة.
كامل الشناوي يرى أن فوائد السفر السبع تتجسد في الانطلاق إلى الشوارع والمقاهي بصحبة الناس، بينما عبد الوهاب يستغل تلك الرحلة عادةً في التلحين، فهو يصطحب معه رفيقه الدائم أقصد طبعاً عوده، ومعه عادةً كلمات لأغنية تعثرت أنغامها في القاهرة، لعلها تتفتح في باريس.
ورغم الفارق الكبير بين زماننا وزمن عبد الوهاب، فإنني ومع الأسف وأيضاً غيري ممن يعملون في مهنة الصحافة والنقد، نكتشف أننا نسير على نهج عبد الوهاب، عندما نسافر إلى مهرجان نظل قابعين أمام الشاشات أو في القاعات متنقلين من ندوة إلى أخرى، متجاهلين أنّ لأبداننا وعقولنا علينا حقاً. الحياة ليست قطعاً الشريط السينمائي الذي من الممكن أن تراه في أكثر من مهرجان، بل ومع انتشار التقنيات الحديثة لم يعد الناقد في حاجة دائمة إلى السفر. أغلب الأفلام ومع مرور أيام قليلة على عرضها، تكتشف أنها متوفرة وبكثرة على «النت»، ثم إن الحياة ليست كلها سينما. أعترف لكم أن الأمر صار كثيراً ما يختلط عليَّ بين الشريط الذي يجري على الشاشة، وشريط الحياة الذي يتسرب في كل لحظة من بين أيدينا.
قبل نحو أسبوع تلقيت دعوة من سفارة مملكة السويد بالقاهرة لحضور الاحتفال بمئوية المخرج إنجمار برجمان، الذي صار واحداً من أساطير «الفن السابع». المكان الرئيسي للاحتفال هو جزيرة «فارو» التي عشقها برجمان، وأوصى أن يُدفن في كنيستها، كما أنه صوّر فيها أربعة من أهم أفلامه وأشهرها «بيرسونا»، شاهدتُ الأفلام في القاعة التي أنشأها برجمان، ومع نهاية العرض ننتقل إلى المكان الواقعي الذي كانت تُصوَّر فيه الأحداث، ونتأكد أن الصخور تكاد تنطق لتبوح بالكثير من أسرار الفيلم.
شاهدنا البيت الذي عاش فيه و«الشخبطة» التي كان يكتبها مثل الأطفال على الجدران. الرحلة متخصصة للأفلام على الشاشة، وأيضاً تضمنت بالضرورة كل جوانب الحياة في جزيرة ألهمت برجمان الكثير من الألق السينمائي.
اكتشفت أننا نظلم أنفسنا كثيراً عندما نلاحق فقط الأفلام على الشاشة، وننسى أن الحياة أروع وأصدق وأبهج بل وأكثر جدارة بالملاحقة. كان شعاري طوال تلك الرحلة القصيرة «انتعش... أنت في جزيرة فارو»!