د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا واستفزاز وزيرة الدفاع الإيطالية

تتعرض ليبيا لحالة استفزاز وابتزاز إيطالي غير مسبوقة إلا في زمن الاستعمار الإيطالي، فإيطاليا ركع يوماً رئيس حكومتها سلفيو برلسكوني السابق ليقبل يد نجل شيخ الشهداء عمر المختار، اعتذاراً عن فترة الاستعمار الإيطالي، بعد أن سبقها بتقبيل يد معمر القذافي، في سابقة لا تفسير لها سوى أن للنفط بريقاً رغم سواد لونه.
بالعقلية البراغماتية المصالحية الذرائعية نفسها، لا تزال الحكومة الإيطالية تتعاطى مع الشأن الليبي، فبعد القاعدة العسكرية في مصراتة بذريعة مستشفى عسكري لم نشهد له أي مساعدة لجرحى الجيش الليبي في حربهم على الإرهاب، تسعى إيطاليا إلى إنشاء قاعدة عسكرية في الجنوب الليبي بالقرب من مدينة غات، بالتعاون مع ضابط سابق لا يزال يجاهر بالانتماء للنظام السابق ويرفع رايته، مستغلة حالة الانقسام والتشظي السياسي لتفرض نفسها في كعكة البترول والغاز الليبيين، خصوصاً بعد الاكتشافات الأخيرة، التي تؤكد أن احتياطي الغاز الليبي يمكنه تزويد أوروبا بالغاز لأكثر من أربعين عاماً مقبلة.
تسويف إيطالي رغم التنديد الليبي الشعبي الواسع بدخول البوارج الحربية الإيطالية إلى مدينة طرابلس، التي ترجمت بإحراق العلم الإيطالي في تعبير عن حالة شعور عام ليبي متزايد بالكراهية تجاه تدخل إيطاليا، وأنها تتعاطى مع الشأن الليبي من خلفية حقبة الاستعمار وعقلية الشاطئ الرابع التي تعشعش في رؤوس بعض السياسيين من بقايا الفاشيست لدرجة تصريح وزيرة الدفاع الإيطالية إليزابيتا ترينتا بالقول: «على فرنسا أن تعرف أن ليبيا من أملاكنا».
التدخل الإيطالي هو نتاج المعادلة الصعبة بين قصر كيجي ورئيس الحكومة باولو جينتيلوني، وتقاطع المصالح مع شركة إيني الإيطالية ومشروع تطوير حقل بحر السلام، وهو واحد من أكبر حقول النفط في ليبيا، ويعتبر مصدراً مهماً من مصادر إمدادات الغاز لخط غرين ستريم.
إيطاليا المستعمر القديم التي ارتكبت الفظائع في ليبيا لدرجة أن أحد جنودها انشق وانضم إلى صفوف المجاهدين الليبيين هو كرميني يوريو جوسيبي Giuseppe Carmini Jorio المولود في عام 1883، والذي أسلم وشارك المجاهدين الليبيين حربهم ضد سلطات الاحتلال الإيطالي في معارك استمرت اثني عشر عاماً، ولكن لاحقته السلطات الإيطالية وحكمت عليه بالإعدام، ما يؤكد أن هناك من الإيطاليين من يعترفون بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولكن ليس قوات الفاشي موسيليني الذي أنشأ المعتقلات، التي أشهرها معسكر العقيلة، والتي سجن فيه هذا الطاغية آلافاً من الشعب الليبي خلف الأسلاك الشائكة في عملية إبادة لشعب في معتقلات قسرية لم تحظَ بتسليط الإعلام عليها.
وهكذا هي إيطاليا، ففي بداية هذه السنة 2018، وبمجرد أن أطلق الجيش الليبي عملية غضب الصحراء لملاحقة فلول العصابات والجماعات الإرهابية في الصحراء الليبية، سبق للحكومة الإيطالية أن سارعت بتزكية من البرلمان الإيطالي إلى الموافقة على إرسال قوات إضافية للأراضي الليبية، ضمن أجندة لا تخفيها الحكومة الإيطالية بلسان رئيسها باولو جينتيلوني الذي قال: «لدينا أجندتنا بشأن ليبيا». وكأن ليبيا جزء من الأراضي الإيطالية.
بيد أن الوجود الإيطالي، مهما كانت مبرراته، لا يمكن فهمه إلا أنه انتهاك للسيادة الترابية والمياه الإقليمية الليبية، فوجود قوات برية أو غيرها تحت أي اسم دون إذن من البرلمان الليبي (السلطة العليا في البلاد)، يجعلها قوات غازية، ما يعطي الجيش الليبي حق الرد، فالتعاطي الإيطالي مع الأزمة الليبية تقلب من حالة الابتعاد إلى حالة التدخل المافيوي المباشر.
وقد سبق لإيطاليا أيضاً أن أرسلت قطعاً بحرية عسكرية استفزازية إلى الشواطئ الليبية، بمجرد الإعلان على توافق بين المشير خليفة حفتر وفائز السراج في باريس تنافساً على من تكون له اليد الطولى في ليبيا.
ولكن ينبغي القول إن هناك أصواتاً سياسية إيطالية تطالب بالتنسيق والاتفاق مع الجيش الليبي، ومن هؤلاء النائب الإيطالي المعارض السندرو باجانو، الذي أشار صراحة إلى ضرورة «الاتفاق مع المشير حفتر وقوات الجيش الليبي في شرق البلاد للتعاون في مجال بسط الاستقرار في ليبيا»، إلا أن الحكومة الإيطالية لا تزال تميل إلى العمل مع الميليشيات في محاولتها الحد من تدفق المهاجرين عبر البحر.
التدخل الإيطالي بحجة مكافحة الهجرة غير القانونية، غير مقبول ومرفوض، لأن ليبيا ليست بلد منشأ للهجرة، فهي مجرد بلد عبور، وبدلاً من حل المشكلة في بلدان الهجرة، اكتفت إيطاليا والأوروبيون بمشروع مكافحتها عبر ليبيا وتحميل ليبيا وزر المشكلة وأعبائها، وليبيا نفسها إحدى ضحايا الهجرة غير القانونية، ولهذا فإن التدخل الإيطالي الذي يسعى لإنشاء قاعدة عسكرية قرب مدينة غات الليبية، أحد مشاريعه في ليبيا، هو مشروع لتوطين المهاجرين الأفارقة، من خلال الإبقاء عليهم على الأراضي الليبية داخل مراكز الاحتجاز ومخيمات الإيواء، وتحويل ليبيا لوطن بديل لهم، وتكون القاعدة بمثابة ميليشيا لحماية مصالح إيطاليا البترولية في ليبيا، في اختراق للقوانين والأعراف الدولية لدولة لا تزال تعترف بها الأمم المتحدة دولة ذات سيادة.
التدخل والاستفزاز الإيطالي وانتهاك السيادة الليبية سواء بالبوارج والاستعراض البحري أو عبر قوات على الأرض كتلك التي تحتضنها ميليشيات من مدينة مصراتة بحجة مشفى عسكري أو القاعدة التي ستنشئها في الجنوب الليبي، سيقابل كل هذا بالرفض والمقاومة وحق الرد، وقد سبق أن جربتنا إيطاليا شعباً مقاوماً للاحتلال، وزمن عمر المختار ليس ببعيد.