نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

فصول الأسد الأربعة

قبل الحديث عن بشار، لا بد من الحديث عن والده.
الذين أحبوا حافظ الأسد والذين كرهوه، أجمعوا على أن الرجل كان واحداً من القادة الذين احتفظوا بأطول مدة في الحكم، واتخذ خلال هذه المدة الطويلة قرارات استراتيجية، أحدثت مفعولاً مستمراً وتغييراً في الخرائط.
من غيره اتخذ قرار احتلال لبنان عسكرياً، متمتعاً بغطاء لبناني وعربي ودولي؟ ومن غيره سحق مدناً وقرى بكاملها للقضاء على خصومه، وكان أبرزهم وأشدهم خطراً «الإخوان المسلمون»؟
ومن غيره تحدى شعارات البعث اللاهبة والتعبئة القومية الجذرية ضد «أميركا الإمبريالية»، وأرسل قواته إلى حفر الباطن للقتال تحت العلم الأميركي؟ وهذا ليس كل شيء فعله حافظ الأسد، ورغم قبضته الخشنة على الشعب السوري، وهو العسكري المحترف، فإن دخوله في غيبوبة طويلة ذات مرة، وقيام المتصارعين على الخلافة بنشر الدبابات في شوارع دمشق، أخاف السوريين على أرواحهم وممتلكاتهم، فلهجت ألسنتهم بالدعاء للعلي القدير، بأن يوقظ الرجل النائم على حافة القبر، كي يوقف الحرب الأكيدة والمدمرة التي سميت في حينها حرب الخلافة.
بعد تلك الغيبوبة الطويلة، استقر نظام الأسد الوالد في سوريا، وتعززت مكانته في المنطقة، وصارت كل الأهوال التي واجهها الرجل منذ تخليصه السلطة من قبضة رفاقه في الحزب والدولة وراء الظهر، وصارت الإطاحة به أمراً مستحيلاً.
هذا ملخص مركز لمسيرة الأسد الوالد، قدّرت أنها تصلح في مجال الحديث عن الأسد الابن.
القدر أو الصدفة جعلت من طالب كلية الطب في بريطانيا رئيساً لواحدة من أهم الدول في المنطقة. ورغم الطريقة غير الديمقراطية وغير المقنعة التي توج بها الطبيب الشاب على عرش الدولة، فإن قوى مهمة وشرائح واسعة من الشعب السوري وكيانات الجوار القريب والبعيد، رحبت بمقدم الشاب بفعل الاحتفاء برحيل والده.
تأمل السوريون باحتمال إرخاء قبضة النظام الخشنة عنهم، وتأمل العالم بالشاب الذي ينتمي إلى جيل الكومبيوتر، أما القوى التي حكم بها والده الحزب والدولة، فقد انتابتها حالة من الحذر من تجديد محتمل ربما يطال نفوذهم وامتيازاتهم.
كانت السنوات الأولى لبشار هادئة، حتى قيل إن الرئيس الشاب يتجول في شوارع دمشق الجميلة متأبطاً ذراع زوجته، دون أن يعلن الجيش السوري وقوى الأمن حالة طوارئ واستنفار.
وكما اتخذ الوالد قرارات استراتيجية جريئة، فإن بشار لم يجرؤ على اتخاذ القرار الوحيد الذي تبين فيما بعد أنه الوحيد فعلاً لتجنيب سوريا ما حل بها، وهو الإفادة من الزخم الذي حازه لإجراء إصلاحات ديمقراطية حتمية تعيد للمجتمع المدني اعتباره، وتفرز برلماناً حقيقياً يتخلى فيه النظام عن معادلة التسعات الأربع التي صارت مادة للسخرية والاستنكار.
لم يرَ الرئيس الشاب المتغيرات التي جعلت الإصلاحات الداخلية شرط بقاء، ليس للرئيس والنظام فحسب، وإنما للدولة أيضاً، فاختار بشار استنساخ تجربة والده، دون أن يمتلك الموهبة والأداة الكافية للحصول على مغانم التجربة دون دفع مغارمها. وبصرف النظر عن مزايا ضرب الإرهاب وحتى دفع تكاليف اجتثاثه من الجذور، فإن نظاماً عاد ليحكم بالقبضة الخشنة، سيجد نفسه في تنافس على الأذى مع من أعلن الحرب عليهم.
تبدو سوريا الآن كما لو أنها شركة مملوكة أسهمها لغير السوريين. وتشهد البلاد التي كانت من الأفضل - إن لم تكن الأفضل في عالمنا العربي - حرباً مركبة، منها ما يدور على السطح ومقياسه مساحة الأرض التي يسيطر عليها كل مالك أسهم في هذه الشركة، وحرب أخرى تحت السطح تؤججها أجندات المصالح، وهذا النوع من الحروب قد يسمح بالقول إن هذا الطرف إما انتصر وإما أنه في نهاية الطريق إلى النصر، إلا أنه سيستبدل ربما بالحروب المباشرة حروب النفوذ التي قوامها المؤامرات والتصفيات بين حلفاء أمر واقع الأمس، والمتصارعين على النتائج والخلاصات.
وبالنسبة لبشار، وهو موضوع هذه المقالة، فهو ذاته صار شركة مساهمة، فإن رضي من الغنيمة بالبقاء فالروس لن يتعاملوا في أمر النفوذ كما لو أنهم قاموا بعمل خيري، والإيرانيون ومن معهم لن يغادروا بعد أن انتصر تيار «الممانعة»، والأميركيون سيضمنون مصالحهم بإرضاء جمهورهم بأنهم ليسوا مضطرين إلى إرسال جنودهم إلى هناك. أما إسرائيل - وهذا هو بيت القصيد في التاريخ والجغرافيا والحاضر والمستقبل - فقد عاودها الحنين إلى هدوء الجبهة الشمالية الذي أمنه بكفاءة عالية الأسد الأب والأسد الابن، وصاروا يجاهرون دون وجل أو إحراج، بأن بشار ليس فقط هو الأفضل؛ بل هو حاجة استراتيجية.
فصول أربعة في أكثر من ثلث قرن، حكم فيها الأب والابن واحدة من أهم الدول العربية، وعلى القارئ أن يحدد الربيع والخريف والصيف والشتاء.