رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

رابطة علماء المغرب وتفكيك خطاب التطرف

أقامت الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي بمكة في يومي 3 و4 يوليو (تموز) 2018، مؤتمرها السنوي الذي كان موضوعه: مكافحة التطرف من طريق تفكيك خطاباته القائمة على تحريف المفاهيم الدينية، ونشر الفرقة بين المسلمين وتكفيرهم، ومصارعة العالم. أما المفاهيم المحرَّفة والانشقاقية فقد تناولت مفاهيم دينية أساسية من مثل: التوحيد والشرك، ورؤية العالم والدار، والحاكمية، والخلافة، وعلائق الدين بالدولة، وتجاهل المقاصد الشرعية، وتحويل الإسلام إلى دوغمائيات نشورية من فتن وملاحم آخر الزمان، همُّها إهلاك إنساننا وعمراننا وحضارتنا. وقد حاضر في المؤتمر الدكتور أحمد العبادي الأمين العام للرابطة المحمدية التي يرأسها العاهل المغربي الملك محمد السادس، بمشاركة وحضور كبار علماء المغرب. كما حاضر علماء بارزون من المملكة العربية السعودية، وأساتذة في علوم الدين من بلدان العالمين العربي والإسلامي.
لقد تطور الخروج على «الأصول المستقرة والأعراف الجامعة» لدى جماعة المسلمين عبر عقود، فأدّى إلى انشقاقات وتطرفٍ عنيف من جهة، وإلى تحويل الإسلام إلى مشكلة عالمية من جهة أُخرى. وقد بدأت هذه الخصوصيات القاتلة على خطين أو في مسارين: مسار الانجراف المزعوم من جانب المسلمين وعلمائهم عن الأصول الصحيحة للدين، والتردي في أعراف شركية في مديات متطاولة. ومسار آخر يعتبر أنّ التغريب الحاصل في زمن الاستعمار، وزمن الحداثة، أفضى بالمسلمين إلى الوقوع في جاهلية جديدة ينبغي مقاتلتها بالقوة ذاتها التي تُقاتَلُ بها التقاليد والأعراف الضالة. إنما كيف ينبغي أن يحصل ذلك؟ لقد تبلور عبر عقود داخل صحويات الأسلمة الجديدة تياران: التيار الذي يغلِّب اعتبارات أسلمة الحداثة والتغريب أو التلاؤم معهما عبر تأويل وتحويل المفاهيم الإسلامية والأنساق الكبرى للحضارة إلى ما يشبه ما هو سائدٌ في نظام العالم الحديث. وقد بدأت معالم الدعوات الأُولى لهذا المذهب في فهم مشكلات المسلمين في اعتبار أنّ الغرب «طما سيلُه» بحسب خير الدين التونسي في كتابه «أقوم المسالك» بسبب تقدمه الحضاري والسياسي، ويوشك أن يغرق المسلمون بطغيان هذا السيل على ديارهم، ولذلك قال التونسي كما قال الطهطاوي من قبل إنه لا بد من انتهاج سبيل الغرب نفسه، للوصول إلى حالة من التقدم تناظر حالته، ويمكن من خلالها وبالتجديد السياسي والديني أن نُدافع ونشارك في حضارة العالم الحديث، ونخرج من الانحطاط الذي تردَّينا فيه. وهكذا فقد دعا «علماء التقليد» القائمين على «ركن الدين» إلى أن يدعموا مشروع التجديد لدى القائمين على «ركن الدنيا»، لأنّ انهيار ركن الدنيا أو الشأن السياسي والاجتماعي، سوف يؤثر سلباً على ركن الدين، ففي الإصلاح ورعاية المقاصد الشرعية مصلحة لازمة للطرفين.
وأما التيار الآخر الأعمق تأصيلية فقد أصرَّ على تحطيم التقليد، ثم استكان لدولة الملك عبد العزيز. ثم جاءت ظروف الحرب الباردة والعلاقات الدولية فيها، فحدث تقارُبٌ بين التلاؤميين والتأصيليين، وناضلوا معاً مع الأميركيين ضد الروس في أفغانستان. ومنذ ذلك الحين ما عادت ساحة خالية على التخوم الجغرافية والاستراتيجية، أو بالدواخل من «جهاديين» اكتملت لديهم مقولة الفسطاطين، وما عاد يمكن اللقاء مع الآخر إلاّ في الميدان. وفي الوقت نفسه ظلَّ لشعبة التلاؤم نشاطٌ بالدواخل، واتصالات مع الخارج العالمي. وبذلك فإنّ الخصم الأوحد المسلَّم به من سائر الأطراف فهو السلطات العربية والإسلامية باعتبار الإسلاميين على اختلاف ألوانهم لهم الحق بتولي إدارة الشأن العام. وفي معظم الأحوال، ليس لأنّ الجمهور يريدهم، بل لأنهم الفريق الرئيسي الداعي لتطبيق الشريعة، لكي تعود الشرعية للدولة والمجتمع!
قال عددٌ من المحاضرين إنّ المشكلة مع التطرف العنيف أمران دينيان رئيسيان: التكفير، واستحلال الدم الحرام. بل إنّ التكفير هو الذي يؤدّي إلى استحلال الدم وسفكه. ولذلك فإنه ينبغي ملاحقة ظاهرة التكفير، سواء كان المكفَّرون مسلمين آخرين، أو كانوا بشراً من دياناتٍ أُخرى وثقافاتٍ أخرى. وتكون المكافحة بأساليب شتى مثل المدارس والبرامج التعليمية، وخطابات المساجد ودروسها والدورات التدريبية. ويتطلب ذلك ثقافة عميقة لدى المحاوِرين والمؤهّلين، وصبراً جميلاً، وفهماً للمحيط الصغير والكبير. إنّ خطورة التكفير أنه أمرٌ خفي إن لم يمارَسْ علناً أو يجري الذهاب للقتال ومن هنا تحصل المفاجأة دائماً من جانب شبان يثورون فجأة ولا يتورعون عن القتل. ولذلك لا بد أن تكون البيئات حاضنة بغضّ النظر عن التفاصيل في مراحل المراهقة. وما عاد يمكن ضبط الشاب بألا يذهب إلى هذا المسجد أو ذاك أو إلى هذا الداعية أو ذاك. إذ يستطيع الفتيان الآن بل ومن سنوات اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي... لذلك قلنا إنّ التربية هي المكسبة للمناعة وكذلك التدريب والجماعات الحوارية. أما لماذا وصلت الظاهرة إلى صغارنا؟ فإن كثيرين يقولون إن زمن ما بعد الحداثة هو زمن «الحقائق الاعتبارية»، وكل الفتيان يميلون إلى خصوصياتٍ شديدة وإلى شيء من العنف والتفرد. وقد وجد فتيان المسلمين على وجه الخصوص هذا النموذج من العنف ضد القوى المسيطرة والكبرى بالخارج والداخل فجذبهم وإن لم تكن لديهم مقدمات مثل التكفير تمهيداً لاستحلال الدم، في حالة «القاعدة» كان هناك نموذج النجاح الجاذب في هجمة 11/ 9/ 2001 الأسطورية. وفي حالة «داعش»، كان هناك نموذج الدولة القائمة 2014 - 2015. ولذا اعتملت في أذهان الفتية وبخاصة في أوروبا وأميركا أحلام ودواعي الإنجاز والبطولة والقداسة. وتحت وقْع الأهوال التي لقيها مناضلو المشروعين، فالراجح أنّ توجُّه التجارب على الأرض سيتراجع، ربما لصالح الغرق من جديد في النظريات. إنما هؤلاء الفتيان يفتقدون إلى القدرات الثقافية المعقدة، فالراجح أن ييأسوا أو يبحثوا عن أمكنة نائية أو خفية في العالم بانتظار فُرصة أو مناسبة ملائمة.
إنّ مسألة الصحويات والإسلام السياسي هي الأكثر تركيباً وتعقيداً، وهي التي أسست بالطبع للإسلام الجهادي، وإسلام الدولة. فقد بدأ الأمر بمشروع «تقنين الشريعة» للتلاؤم مع الدولة الحديثة، وإظهار قدرة الإسلام ومرونته. لكنّ هذا التيار الذي ظلَّ له أنصاره حتى اليوم، تراجع لصالح تيار القطيعة في الأربعينات وما بعدها. مضت الاجتهادات باتجاه النظام الكامل، واتجاه الحاكمية الإلهية. وظلَّ متدينو «الاستبلشمنت» Establishment يراهنون على تقنين الشريعة، باعتبار أنّ تلك هي الوسيلة لجعلها ممكنة التطبيق من طريق الدولة، فتعود بذلك الشرعية! إنما المشكلة أنه ظهر فريقٌ وأكثر في السبعينات من القرن الماضي يقول: كيف تصدقون أن الحكومات العلمانية تريد تطبيق الشريعة؟ ثم ما مصلحة الأنظمة في ذلك وهي لا تريد العدالة ولا التنمية! المهم أنه استقر في الأخلاد أن الشريعة لا يطبقها غير الحزبيين الإسلاميين! فلم تبق غير مسافة قصيرة ليتقاطع التياران الرئيسيان على أسلمة الدولة: بالجهاد الانتخابي تحت شعار «الإسلام هو الحل»، أو بالجهاد على الأرض تحت شعار: إقامة دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة!
لقد أطلتُ بعض الشيء في تلخيص النقاشات التي دارت في مؤتمر الرابطتين، وبخاصة في موضوعي: التكفير واستحلال سفك الدم، وموضوع إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. لكن من الحق أن يقال إن هذا الجانب بموضوعيه ما استغرق أكثر من نصف بحوث المؤتمر. أما النصف الباقي فاهتم لأمرين أساسيين: تأهيل المؤسسات الدينية لكي تستطيع القيام بمهامها ووظائفها على وجهٍ أكثر اقتداراً وكفاءة. وأما الأمر الثاني فيتعلق بالتوجهات الجديدة للمؤسسات الدينية. كيف تتوجَه في مسائل الإرشاد العام؟ المفهوم أنه يظل ضرورياً الحملة على الإرهاب والتطرف والنهي عن المنكر أو درء المفاسد. لكننا قوة ناعمة والمطلوب منا في الأساس ليس النهي عن المنكر، بل الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير. فإلى ماذا ندعو الذين نريد إغراءهم بترك المنكر أو عدم الإقدام عليه؟ ندعوهم بالطبع إلى الخير والمعروف والبدائل المشابهة. وهذه المسائل ليست غامضة أو قليلة الجاذبية، فعمل الخير والتدريب عليه أكثر جاذبية من العمل العنيف. ثم إنه إذا كانت الدولة الإسلامية المزعومة تقتضي إدارة التوحش (!)؛ فإنّ العمل من جانب الشباب على بلوغ دولة الحكم الرشيد، هو عمل مسالمة وتضامن وتنمية وإنسانية.
كنتُ دائماً من أنصار التعاون بين المؤسسات الدينية الكبرى. وما تمَّ في الرباط بين المؤسستين واعدٌ ومبشِّر، سواء لجهة تفكيك خطاب التطرف، أو لجهة إعادة البناء أو التأهل والتأهيل.