بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

إظهار الفرح بالانتصار

الأحد الماضي، لم يتردد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القفز من مقعده والتلويح بقبضتي ذراعيه اليمنى واليسرى، كي يعكس مدى الفرح بفوز فريق بلاده بكأس العالم لكرة القدم. فرح الرئيس الشاب بإنجاز منتخب فرنسا في المونديال العالمي، أجاز له وضع الوقار الرئاسي جانباً، للتعبير عن مشاركة جموع الفرنسيين فرحتهم بانتصار كهذا للمرة الثانية بعد الفوز الأول سنة 1998. بينما أتأمل الصورة، التي أفردت لها «التايمز» اللندنية في عددها الصادر أول من أمس، مساحة معتبرة على صدر صفحتها الأولى، قفز من أرشيف الذاكرة حديث عن رئيس عربي راحل، سمعته من مثقف مسؤول، ذي تجربة سياسية مهمة، عمل إلى جانب الرئيس المعني عن قرب بضع سنوات، خلاصته أن الرجل كان يحرص على حضور مباريات فريق بلاده، لكنه لم يكن يتخلى عن تجهم المظهر طوال المباراة، أما إذا سدد فريق بلاده هدفاً في مرمى الخصم، كان الرئيس الراحل، عِوض إظهار البهجة مع غيره، ينهض من مقعده ويدخل المقصورة الرئاسية كي يعبّر عن ابتهاجه منفرداً، فلا يراه أحد ضاحكاً، أو ربما مبتسماً، إذ كان يرى في ذلك إخلالاً بسِمة وقار عُرف بها أمام الناس، في بلده وخارجه.
صورتان غير متشابهتين على الإطلاق. بالطبع، رؤساء الدول بشر عاديون، كما غيرهم من الناس، لهم مطلق الحرية في انتهاج أي سلوك شخصي يشعرون معه بالارتياح. يندرج ضمن ذلك حقهم في اختيار ما يريحهم من اللباس، أو أساليب الكلام، أو التمييز بين وضع الجلوس مع ضيوفهم، وبينه في المناسبات العامة وفي خاص المجالس. يُفترض أن ذلك كله يفرض على الآخرين، وفي مقدمهم أهل الإعلام، ممارسة أقصى درجات الاحترام إزاء أي شأن ذاتي يخص كبار المسؤولين، بأي مجتمع. رغم ذلك، ليس سهلاً، في بعض الأحيان، غض النظر تماماً عن تناقض يتسم به سلوك شخصيات تحتل مواقع قيادية في مجتمعاتها، خصوصاً إذ يتكرر ذلك التناقض، ويتخذ صفة دائمة تلفت النظر. ليس من العسير إعطاء أمثلة عدة في هذا السياق، سواء تعلق الأمر بزعماء رحلوا نتيجة انقضاء أجلهم في ظروف عادية، أو آخرين أزيح بعضٌ منهم غصباً عنهم، مثلما أتوا للحكم بمنطق قوة السلاح، أو زعماء دول لم يزل بينهم مَنْ يثير من الجدل بشأن المظهر والأقوال أكثر مما تنال سياساته، وتأثير مواقفه، على شعوب عدة حول العالم، من الاهتمام.
الأقرب إلى واقع الحال، هو القول إن التصرف العفوي للرئيس إيمانويل ينسجم مع مستجدات زمن متغيّر بإيقاع غير عادي. ومع أن إظهار الابتهاج بفوز منتخب بلاده، أجاز لرئيس فرنسا وضع وقار الرئاسة جانباً لبضع دقائق، يظل من الضروري، للمجتمعات كافة، التمسك بنهج «لكل مقام مقال». عندما وقع إخلال بهذا النهج مع الرئيس الفرنسي نفسه، اضطر لاتخاذ موقف الدفاع عن احترام مطلوب لشخص الرئيس. حصل ذلك في التاسع عشر من يونيو (حزيران) الماضي، إذ بينما كان ماكرون يحضر احتفالاً بذكرى دعوة شارل ديغول الفرنسيين لمقاومة الاحتلال الألماني، خلال الحرب العالمية الثانية، حياه صبي بالقول: «كيف الحال مانو»؟ أجاب ماكرون الصبي غاضباً: «نحن في احتفال رسمي، يجب أن تخاطبني بسيدي الرئيس».
مقابل غض النظر عن بعض المظاهر العفوية عندما يشارك كبار المسؤولين عامة الناس في إظهار الفرح العام، يمكن ملاحظة تصرف مناقض يتجلى بوضوح إذا أصاب كبير قومٍ ما، قرح ذاتي، إذ في أغلب الحالات، يحرص كبار المسؤولين على التمسك برباطة جأش صارمة، بحيث يبقى حزن الشخص في الحيّز الشخصي، ولا يُفرض على المجتمع فرضاً أن يعيش حالة الحزن الذاتية تلك. بالتأكيد، تصرف كهذا يدل على رُقي إحساس صاحبه، أياً كان موقعه أو ثقافته. الواقع أن اختلاف تصرفات الناس، حاكمين أو محكومين، في المناسبات العامة، يظل محكوماً بتباين الثقافات، إنما يبقى واضحاً أن فرصة إظهار الفرح بالانتصار، إذا أتيحت، يجب ألا تُفوّت.