عدنان حسين
* كاتب عراقي
TT

إنذار عراقي أخير للطبقة السياسية الحاكمة

لم يقرّر أحد مسبقاً أن يقدح شرارة انتفاضة جديدة في العراق، ولم يخترْ أحد موعداً لاشتعالها، لكنّ انتفاضة الصيف الحالي التي اندلعت من تلقاء نفسها جاءت في توقيت مناسب للغاية، بل مثالي جداً.
في مرّات سابقة كان الصيف موعداً لحركات احتجاجية عدة، أكبرها تلك التي اندلعت في نهاية يوليو (تموز) 2015، واستمرت عدة أيام، ثم تواصل إحياؤها أسبوعياً، كل يوم جمعة، في العاصمة بغداد ومدن أخرى في الوسط والجنوب، وبلغت ذروتها باجتياح الآلاف من المتظاهرين مقرّي مجلس النواب ورئيس الحكومة، والاعتصام أياماً عدّة عند مداخل المنطقة الخضراء، وهي منطقة معزولة في قلب بغداد ومحصّنة بحصن مكين. ولبثت تلك الحركة إلى ما قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 12 مايو (أيار) الماضي، ولم تُعلن نتائجها النهائية بعد بسبب الطعون الكثيرة في نزاهتها ما أرغم البرلمان السابق على القرار بإعادة العدّ والفرز في الكثير من المراكز والمناطق الانتخابية، وهي عملية لم تنته بعد رغم أنه كان يتعيّن عقد البرلمان الجديد أولى جلساته في الأول من الشهر الحالي.
في موعد مناسب ومثالي جاءت انتفاضة الصيف الجديدة التي عمّت كل محافظات الجنوب والوسط (ذات الأغلبية الساحقة الشيعية)... الحرب ضد «داعش» انتهت، وأسعار النفط ارتفعت كثيراً بالمقارنة بما كانت عليه في السنوات الماضية، وهذان بالذات كانا الحجة التي تذرّعت بها الحكومة الحالية التي يترأسها حيدر العبادي لعدم الوفاء بتعهداتها على صعيد الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي، خصوصاً إنهاء نظام المحاصصة ومكافحة الفساد الإداري والمالي.
وتوقيت الانتفاضة كان مناسباً أيضاً كون مجلس النواب الجديد لم ينعقد بعد، والحكومة الجديدة لم تتشكّل. المنطق يقول إن البرلمان والحكومة الجديدين لا بد أن يأخذا العبرة مما حصل في هذه الانتفاضة التي تجاوزت في حدّتها وعدد ضحاياها الحركات الاحتجاجية السابقة، فالمعطيات الرسمية تفيد بمقتل نحو 15 متظاهراً وإصابة نحو 800 بجروح من المتظاهرين وعناصر القوات الأمنية، التي أفرطت للغاية هذه المرة في قمع الحركة الاحتجاجية باستخدام الرصاص الحي والغازات والهراوات والاعتقال العشوائي والتعذيب في المراكز الأمنية. كما جرى إشعال النار في العديد من الأبنية، معظمها مقرات لأحزاب الإسلام السياسي (الشيعية) المتنفّذة في المحافظات وفي بغداد، في دلالة قويّة على تركيز سخط الناس على هذه الأحزاب التي تولّت السلطة، وتمسّكت بها منذ 2003 حتى اليوم، وشرّعت القوانين اللازمة لترسيخ سلطتها هذه.
المشكلة في العراق أن المنطق ليس بالضرورة سيكون سيد الموقف. هذا ما تشير إليه إجراءات القمع المُفرط التي جوبهت به الحركة الاحتجاجية السلمية، رغم إقرار الطبقة السياسية المتنفذة جميعاً، وفي مقدمها رئيس الوزراء حيدر العبادي نفسه، بأحقية وشرعية ودستورية مطالب المحتجين. كما أن الحكومات السابقة جميعاً لم تأخذ العبرة مما جرى في الحركات الاحتجاجية التي ظلت تندلع سنوياً منذ 2011، مكرّرة المطالب نفسها: توفير الكهرباء والماء، ومكافحة الفساد الإداري والمالي، والحدّ من المستويات المتفاقمة للبطالة والفقر وانهيار نظام الخدمات العامة (الصحة والتعليم والنقل والطاقة والصرف الصحي)، وإنهاء نظام المحاصصة في تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب في مؤسسات الدولة، الذي لا يسمح لغير عناصر الأحزاب الحاكمة بتولي الإدارات العامة والمؤسسات الأخرى، ما أدى إلى تفشي الفساد الإداري والمالي وحرمان الآلاف من الكفاءات الوطنية النزيهة من المساهمة في قيادة الدولة والمجتمع، ووضع الحلول للمشاكل المتفاقمة من جراء تولّي عديمي الكفاءة والخبرة والنزاهة المناصب القيادية.
قبل اندلاع الانتفاضة الحالية بثمانية أسابيع أُجريت الانتخابات العامة (البرلمانية) التي أظهرت نتائجها الأولية عزوفاً كبيراً عن عملية الاقتراع (مفوضية الانتخابات أعلنت أن نسبة العزوف بلغت 56 في المائة، لكنّ مصادر الأحزاب المشاركة في الانتخابات تؤكد أن النسبة تجاوزت 70 في المائة). وأفادت النتائج أيضاً بأن المقترعين لم يصوّتوا للعشرات من قيادات الأحزاب المتنفذة (الإسلامية) فسقطوا في السباق الانتخابي، وهذه كانت علامة أخرى على السخط العام الشديد حيال هذه الأحزاب التي لم تتجلَّ لها أي كفاءة في الإدارة، ما خلا كفاءة التعدّي على المال العام، وتكوين الثروات الشخصية بمختلف الوسائل.
من المفترض كذلك أن تنتهي في الأسابيع القليلة المقبلة عملية إعادة العدّ والفرز لصناديق الانتخاب التي طُعِن في نتائجها على خلفية اتهامات بعملية تزوير واسعة في عدة محافظات، ليصار إلى اعتماد النتائج النهائية لدى المحكمة الاتحادية، ومن ثم انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد التي يتوجب أن تفضي إلى انتخاب رئيس الجمهورية الجديد الذي بدوره سيكلّف الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة. في السابق هذه العملية كانت تأخذ وقتاً طويلاً امتدّ في إحدى المرات إلى ثمانية أشهر، لكنْ سيكون عملاً أخرق تماماً إذا ما تأخّر تشكيل الحكومة هذه المرة، بسبب الصراعات والمنافسات على المناصب بين الأحزاب الإسلامية خصوصاً. تأخر تشكيل الحكومة سيزيد من مستوى السخط الشعبي، وإعادة تشكيل الحكومة وفق السياق السابق (المحاصصاتي) سيرفع مستوى السخط إلى الذروة، ما يعني تفجّر الانتفاضة التي لم تتوقف بعد، من جديد. يومها، على الأرجح، لن يكون في إمكان أحد السيطرة على الموقف حتى لو اشتدّت وطأة القمع بأكثر مما حصل مع الانتفاضة الحالية التي أبلغت رسالة شديدة اللهجة، مفادها أن العراقيين لن يصبروا أكثر مما صبروه حتى الآن حيال الطبقة السياسية المتنفّذة التي أكل فسادها حاضر العراق ويهدّد بابتلاع مستقبله بالكامل.
تفجّر الانتفاضة من جديد بوتيرة أقوى خيار مرجّح، فالطبقة السياسية المتنفذة لم تُظهر الكثير من الاكتراث للإنذار الذي أبلغته الانتفاضة، بدليل أنها لم تقدّم للمحتجين ما يستجيب لأدنى مطالبهم. ربما هي تراهن على الوقت، لكنّ هذا سيكون مجازفة خطيرة في الواقع.