داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الألغام: عفريت تحت الأرض

بين آلاف الوعود والعهود التي قطعها على أنفسهم السياسيون العراقيون وحكوماتهم المتلاحقة منذ الاحتلال الأميركي في عام 2003 وحتى اليوم، كان هناك وعد وعهد بتطهير جميع الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة من الأراضي العراقية بحلول العام الحالي 2018.
ولم يكتفِ المسؤولون بوعودهم للعراقيين التي تحمل شعار «كلام الليل يمحوه النهار»، فعاهدوا المجتمع الدولي المشارك في اتفاقية أوتاوا على عدم استخدام أو إنتاج أو حيازة أو تصدير الألغام الأرضية. ومنذ انضمام العراق إلى هذه الاتفاقية في عام 2008 وحتى اليوم لم يتم تطهير شبر واحد من الأراضي العراقية، وما زالت الألغام تنفجر بالضحايا، خصوصاً الأطفال ورعاة الماشية والفلاحين في الشمال والجنوب. بل أُضيفت ألغام «داعش» إلى ألغام الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، وحرب تحرير الكويت (1991)، وحرب الاحتلال الأميركي (2003)، ثم ما تلاها في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى من آلاف الألغام الأرضية غير المنفجرة. ويكفي أن السلطات العراقية نفسها أعلنت أن سبب عدم عودة النازحين واللاجئين العراقيين في الداخل إلى مدنهم كالموصل والفلوجة والرمادي والمدن والقرى الصغيرة حولها حتى الآن بعد مرور فترة طويلة على وقف العمليات العسكرية، يعود إلى انتشار الألغام في آلاف الكيلومترات المربعة في الشمال والوسط والجنوب.
الأمم المتحدة تقدِّر أن المشكلة ليست مقتصرة على العراق، وإنما تشمل دولاً كثيرة، وأن الأمر سيستغرق قرناً كاملاً لإزالة جميع الألغام!
وهذه إحصائية بأكثر 10 دول توجد فيها حقول الألغام: العراق (أكثر من 25 مليون لغم). مصر (23 مليون لغم من أيام الحرب العالمية الثانية والحروب بين مصر وإسرائيل، ولا تتوفر أرقام عن ألغام سيناء منذ الاحتلال الإسرائيلي ثم العمليات الإرهابية). إيران (16 مليون لغم). أنغولا (من 10 – 20 مليون لغم). أفغانستان (10 ملايين لغم). كمبوديا (بين 8 – 10 ملايين لغم). الكويت (5 ملايين لغم). البوسنة والهرسك (3 ملايين لغم). موزمبيق (3 ملايين لغم). الصومال (مليون لغم). بالإضافة إلى اليمن الذي بدأ يعاني من المشكلة بشكل متزايد بعد أن لجأ المتمردون الحوثيون إلى زراعة آلاف الألغام في المدن والبراري والسواحل التي يحتلونها.
أستعيد الآن حادثة توضح أن هذه الألغام لا تستثني أحداً من أخطارها المدمرة. ففي عام 1970 نظمت وزارة الإعلام العراقية في عيد نوروز زيارة للمراسلين العرب والأجانب إلى مدينة السليمانية شمالي العراق لمناسبة توقيع بيان 11 مارس (آذار) للحكم الذاتي للأكراد. وفوجئنا بأن الطائرة الهليكوبتر التي أقلّتنا إلى المنطقة كانت واحدة من طائرتين متشابهتين، مع وجود فرق واحد في الطائرة الأخرى عن طائرتنا، وهو وجود صدام حسين شخصياً فيها وشقيقه برزان التكريتي!
وتبين في ما بعد أن مهمتنا كانت تغطية زيارة صدام، وكان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة في حينه. إلا أن المفاجأة الثانية كانت اكتشاف رجال الحماية أن الدائرة المحددة لهبوط الطائرتين في إحدى المزارع القريبة من بحيرة «دوكان» وسط الجبال كانت مليئة بالألغام الأرضية التي كان الأكراد قد زرعوها لإعاقة تقدم الجيش العراقي خلال سنوات المواجهة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ولا أعرف كيف تم اكتشاف الألغام، لكن مسؤولاً عسكرياً قال لي بعد انتهاء الزيارة إن طائرة صدام كانت مزوّدة بأجهزة لكشف المتفجرات على الأرض، ولولا ذلك لحدثت مجزرة وتغير وجه تاريخ المنطقة، ولما كان بإمكاني أن أسرد هذه الحادثة! وبعد الحادثة، التي لم تقع، بساعتين كنا نتناول طعام الغداء على ضفاف بحيرة «دوكان».
بعد ذلك بعشر سنوات امتلأت أراضي العراق الحدودية مع إيران بالألغام المزروعة والقنابل غير المنفجرة التي يقدَّر عددها بالملايين. وذهب ضحية هذه الأسلحة الفتاكة ألوف الأطفال والنساء، خصوصاً من رعاة الأغنام سواء في شمالي أو جنوبي العراق. وبالإضافة إلى ألغام الحروب شهدت الأراضي العراقية أسلحة مدمرة أخرى هي إشعاعات اليورانيوم المستخدم في القذائف والدبابات وبعض الدروع والأسلحة الأخرى التي تسببت في أمراض سرطانية غريبة وتشوهات جنينية بدأت تنتقل من جيل إلى آخر.
وقد هبّت الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية إلى حملة واسعة لنزع هذه الألغام ومعالجة ما يسمى الأرض المحروقة. وللحقيقة فإن بعض هذه الألغام وضعه الجيش العراقي في المناطق الحرام الفاصلة بين العراق وإيران. وكانت القوات الإيرانية تلجأ إلى الأطفال والحمير لتفجير الألغام أمام قواتها المسلحة التي أوهموها أن الطريق إلى تحرير فلسطين يمر بكربلاء.
وآخر الأخبار ومع حلول العام الحالي أن العراق لن يستطيع أن يفي بالموعد المحدد لتطهير جميع الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة، بعد أن تعهد بذلك في عام 2008. لقد رسم العراق خرائط غير دقيقة للمناطق الملوثة بالألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة، ولا يشمل ذلك بعض الجبال الكردية والمناطق العشوائية التي زرع فيها تنظيم داعش الإرهابي ألوف الألغام. وصار عدم وجود خرائط مفصلة للألغام الأرضية يمثّل إحدى المشكلات الرئيسية، نتيجة لحل منظومة الجيش العراقي السابق بعد الاحتلال الأميركي.
وإذا استمر التلكؤ والبطء في معالجة هذه المخاطر المطمورة، فإن الأمر قد يحتاج إلى ربع قرن قبل تطهير الأراضي العراقية... هذا إذا لم تحدث حرب أخرى! ويمكن للعراق ودول أخرى متضررة الاستفادة من التجربة المصرية غير المكتملة لإزالة الألغام في الساحل الشمالي، خصوصاً منطقة العلمين وسيناء. وتطالب مصر إيطاليا وألمانيا بتمويل عمليات الإزالة لأنها كانت سبب انتشار تلك الألغام في الحرب العالمية الثانية. ومن الدول التي لديها تجارب ناجحة في هذا المجال كرواتيا التي أبدت استعدادها لتقديم خبراتها. وهناك تفاهم عالمي على أن هذه المشكلة الخطيرة تحتاج إلى تعاون دولي تحت علم الأمم المتحدة وإمكانات وتمويل الدول الكبرى. إلا أن المشكلة التي ليس لها حل هي أن أربع دول كبرى من أعضاء مجلس الأمن ولها حق الفيتو، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا هي أهم الدول المصنِّعة للألغام بجميع أنواعها في العالم.