سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الرقص في «متحف اللوفر»

استطاعت الفنانة الأميركية الشهيرة بيونسيه أن تحقق لـ«متحف اللوفر» في باريس ما عجز عنه جهابذة الفن التشكيلي مجتمعين. وبما أن المليارات تتكلم، ولا شيء يفتق القريحة، ويدفع بالبشر للتغيير أكثر من الحاجة للمال، فللمتاحف منطقها أيضاً، وطريقتها في إدارة كنوزها.
وكان «متحف اللوفر» قد آثار غضب الفرنسيين يوم قرر الموافقة على افتتاح فرع له في أبوظبي. عندها قيل بصوت مرتفع إن إرث الأمم لا يسوق كما الـ«كوكا كولا» ولا يستثمر على طريقة همبرغر «ماكدونالدز» وتفتح له دكاكين تجعله مشاعاً مبتذلاً. بعد 11 سنة من تلك الثورة التي ملأت الصحف منازلات، تحتفي الصفحات نفسها بحدث تعتبره «إنجازاً»، وتصفه بـ«المبهر» رغم أنه كان يفترض أن يكون صادماً أكثر من الذي سبقه. فقد فتح أكبر متاحف العالم وأكثرها عراقة، أبوابه وشرع تحفه لكاميرات فنانة أميركا بيونسيه وراقصيها، ومخيلة مخرجها ريكي سايز ليضرب أكثر من عصفور بالحجر نفسه. يقال إن الدقيقة عن الفيديو كليب الذي صورته في المتحف، ومدته ست دقائق دفعت تكلفتها أكثر من ستة آلاف يورو. إذ سددت بيونسيه وزوجها جاي زي، الذي يشارك في ألبومها الجديد، بحسب ما تم تسريبه 40 ألف يورو لليلتي تصوير، وتم الأمر بسرية كبيرة، بين الروائع التاريخية التي يعود عمر بعضها مثل تمثال فينوس دو ميلو الفريد «إلى 100 سنة ق. م».
الأمر لا يتوقف على المبلغ الصغير الذي تكلفته بيونسيه بقدر ما رمت إدارة المتحف إلى الاستفادة من الشعبية الهائلة لصاحبة التقليعات، من أجل جذب أكبر عدد من الزوار. ولم يخب الظن، فبعد عشرة أيام من طرح أغنية الألبوم الذي يحمل اسم «إفري ثينغ أن لاف» كان عدد الداخلين إلى المتحف قد ارتفع خمسة أضعاف عن المعتاد.
لا بد أن الذهنية الفرنسية تتغير بسرعة، وما كان مستهجناً بالأمس صار مطلوباً اليوم. ومعقل التراث الفرنسي، وأكثر المتاحف شعبية، دخل اللعبة مستفيداً، ومخططاً لما بعد الفيديو كليب، حين أعلن عما سماه «مسار بيونسيه»، مخصصاً للموضوع مساحة أساسية على موقعه الرسمي، مروجاً أمام جمهوره، إلى أنه بات بمقدورهم عمل جولة خاصة على الأعمال التي ظهرت في الفيديو كليب، للاستمتاع بمعرفة دلالاتها وتاريخها. وأسهمت الصحافة الفرنسية في الترويج حين بدأت تحلل مغزى أن تختار الفنانة الأفرو - أميركية، هذا التمثال دون ذاك، وهذه اللوحة وليست تلك التي بقربها. هكذا يدخل المستهلك في أكثر من لعبة. وأمثالي ممن لا يعرفون عن بيونسيه سوى بعض أغنياتها، بات متورطاً في متابعة ما كتبته صحيفة «لوموند»، وما حللته جريدة «لوفيغارو»، وما تعتقده مجلة «لوبوان» ورأي «الإندبندنت»، أو ما يقوله الاقتصاديون، وخبراء السياحة، عن الحدث الذي أثار فضولاً كبيراً، واعتبرت انعكاساته وأصداؤه، نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه التسويق الثقافي في السنوات المقبلة، وكذلك الدفاع عن بعض القضايا الإنسانية. التهافت كبير على قراءة حركات الراقصين السود، وأن بيونسيه قصدت أن يظهر «أبو الهول» كي تؤكد أنه أفريقي رغم أنف الجميع، وهناك عمل هو أول لوحة رسمت لامرأة سوداء حرة، في فرنسا عام 1800. في وضعية لا تشي بالاستعباد. الأكثر إثارة هو التركيز على «الموناليزا» رائعة دافنشي، التي يحرسها اللوفر ليل نهار، ليس من لمس الزوار فقط وإنما من فلاشات كاميراتهم الصغيرة. ومع ذلك فإن بروجكتورات بيونسيه جاءت زلالاً على قلوب الفرنسيين، والبهجة عارمة لأنها في نهاية العمل تدير ظهرها لكل شيء، هي وشريكها وينظران إلى اللوحة، ما اعتبره المحللون أنه نداء مدوٍ لزيارة «الموناليزا» والاستمتاع برؤيتها. يقال بحسب ما يحصى ويشاهد بأن الشباب والسود (وهم الأقل بين الزائرين) كانوا المستهدف الأول من سماح اللوفر بهذا التصوير الاستثنائي، وأن الخطة آتت أكلها. وجاء إلى المتحف حتى من الفرنسيين من لم يزره أبداً من قبل.
استفاد الزوجان كارتر، من كل ما أحاط بحياتهما من شائعات ليظهرا معاً في عمل واحد، واستغلا محتويات المتحف العريق لإثارة الجمهور. اللوفر ليس حزيناً، وإنما مبتهج وهو يخصص صفحة لكل قطعة ظهرت في الفيديو كليب مع شروحات على موقعه، ليزيد عدد رواده الافتراضيين ومتابعيه على «فيسبوك». ويذكر المحللون أن هذه التجربة جلبت لبيونسيه 50 مليون مشاهد للعمل في ظرف قياسي.
الأمر لن ينتهي هنا، الدور المقبل للثنائي في «كوليزيه» روما، التحفة المعمارية الرومانية الأكثر إبهاراً، ويبدو أن أموال الفنّانين الثريين تفتح لهما أبواب التاريخ والمستقبل معاً. وثمة من يعتبر أن أهرامات الجيزة يجب أن تكون محطة مقبلة لبيونسيه.
بيت القصيد ليس ما ستفعله صاحبة الجوائز والنياشين، وإنما ضرورة الاعتبار مما يحدث حولنا، لنفض الغبار عن آثار المنطقة العربية، وهو ضخم ويمكنه أن يجتذب سياح الدنيا، لو أحسنت إدارته وتسويقه. فما يظهر في الفيديو المذكور 17 قطعة فقط، أحسن عرضها وتنسيقها، والتأريخ لها، وإلقاء الضوء عليها، ومن ثم التقاط المشاهد معها ليس كقطع في الخلفيات، وإنما كجزء من التشكيلة المشهدية في العمل المصور. بحيث أصبحت حتى سقوف اللوفر، موضع فرجة.
أصحاب التحف والآثار، في زمن التسويق وممارسة التشويق، بمقدورهم رفع أسعار مقتنياتهم، أو الحط من شأنها حين يحطمونها أو يسيئون لها. حولت فرنسا «الموناليزا» من لوحة مهمة كان سعرها منتصف القرن الماضي مائة مليون يورو إلى قطعة لا تقدر بثمن. وفي لبنان ثروة هائلة بعضها ينبذ وغيره يسرق أو يدفن، مع أنه، ومن دون أدنى شك، بمقدوره أن يؤمن مداخيل مستدامة، أكثر من البترول وأضمن من «القنّب الهندي».
أوليس بمقدور منطقتنا، التي تشبه متحفاً في الهواء الطلق، الاستعانة بمشاهير العالم كمدخل فنّي إلى فك الضائقة الاقتصادية وتفعيل حوار الحضارات؟