أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

مأساة المعتقلين السوريين وصمة عار في جبين الإنسانية

الجديد في مأساة المعتقلين السوريين هي التوجيهات الأمنية الممنهجة إلى أمانات السجل المدني في مختلف المحافظات السورية، بإصدار وثائق وفاة لمئات المعتقلين الذين قضوا في سجون النظام، على أن تسرب هذه المعلومات، مع التحذير من السؤال عن الجثامين، إلى عائلات الضحايا، إما مباشرة عبر مخفر الشرطة أو مختار الحي، وإما باتصال هاتفي يأتي من مجهول يحث أهالي المعتقلين على مراجعة دائرة النفوس لمعرفة مصير أبنائهم، وتوقيت موتهم، والسبب؛ الذي يذكر غالباً على أنه أزمة قلبية، والأنكى برصاص قناصة المعارضة، أو انتحاراً بدافع الشعور بالذنب لما ارتكبوه!
وإذ يدرج هذا الإجراء على أنه محاولة من النظام لتخفيف أعباء هذا الملف تمهيداً لطيّه بعد انحسار حدة المعارك، فإن مأساة المعتقلين السوريين تبقى المحنة الأشد إيلاماً منذ ويلات الحرب العالمية الثانية، سواء من حيث الأعداد المخيفة التي تكتظ بها السجون، أو من حيث نوعية التعذيب وهول الآلام التي يكابدها المعتقلون في ظروف يصعب وصفها من شدة قساوتها واستهتارها بحياة البشر وكراماتهم، فضلاً عما يعانيه أهاليهم وأقاربهم وهم في رحلة بحث مضنٍ عنهم محفوفة بالخوف والرعب واللاجدوى.
ورغم صعوبة تحديد أرقام دقيقة لعدد المعتقلين والمغيبين قسراً في سجون النظام السوري خلال السنوات السبع الماضية، فإن تقارير مختلف المنظمات الحقوقية توافقت على أن عدد السجناء الذين انقطعت أخبارهم يتجاوز مائتي ألف معتقل، منهم نحو 3 آلاف طفل، و6 آلاف امرأة، وغالبيتهم من رواد الحراك العفوي السلمي، ولا ينتمون إلى أحزاب سياسية أو جماعة مسلحة... طلاب ثانويات وجامعات، مسعفون ومصورون وصحافيون وكوادر علمية ومهنية... منهم من اعتقل على الشبهة، ومنهم بسبب مشاركتهم في المظاهرات السلمية، ومنهم على حواجز الميليشيا لمجرد انتمائهم إلى إحدى المناطق المناهضة للسلطة، وجميعهم يقبعون في أماكن احتجاز لا تليق بالكائن البشري في ظل إهمال متعمد؛ غذائياً وصحياً، الأمر الذي تسبب، إلى جانب تواتر الإعدامات الفردية والجماعية، بموت كثير منهم يومياً، وهو ما أكدته الصور والفيديوهات والروايات المرعبة عن التعذيب والقتل بدم بارد، أو التمويت البطيء، مرضاً أو جوعاً، وكان أوضحها وأشدها تأثيراً ما عرفت بـ«صور القيصر»؛ ذلك العسكري الهارب والمصور في شرطة النظام، والتي أظهرت آلاف الجثامين المرقمة لمعذبين حتى الموت في أقبية الأمن والسجون... أجسام هزيلة ومهشمة ومشوهة من الجوع ومختلف صنوف القهر والتعذيب.
والحال؛ ما كان لمأساة المعتقلين السوريين أن تتسع وتغدو على هذه الوحشية والفظاعة لولا تضافر عدة عوامل:
أولاً: البنية التكوينية للنظام السوري التي استندت تاريخياً إلى مفهوم الدولة الأمنية لدوام السيطرة، معجونة بعقلية القهر والغلبة وأساليب القوة والقمع لإرهاب الناس وشل دورهم، يحدوها تشبث عنيد بمصالح وفساد ومناصب لا يريد أصحابها التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو احترقت البلاد وكان الطوفان، ويعضدها تنوع فريد من الأجهزة الأمنية التي تتسابق في ابتكار وسائل القمع والإذلال لسحق أي رأي أو تحرك معارض!
ومع أن الاعتقال والإخفاء القسري سلاح قديم اعتمده النظام ضد السوريين منذ أن تسلم الحكم في نهاية ستينات القرن الماضي، واشتد في سبعينات وثمانينات القرن ذاته، وكانت أسوأ تجلياته اعتقالات ومجازر مدينة حماة في مطلع الثمانينات، غير أنه استخدم على نطاق معمم وممنهج بعد انطلاق الثورة لسحق حراك الناس وتحطيم إرادة التغيير، وربما ليس من قبيل المبالغة الاستنتاج أن الاعتقالات العشوائية والواسعة وتعذيب السجناء حتى الموت يدخل ضمن مخطط القضاء على نخبة مهمة من الشباب بدأت بالتمرد سلمياً وهزت أركان النظام بشعارات الحرية والكرامة، والتي يعرف النظام جيداً أنه لا يمكن التصالح معها أو المخاطرة بإطلاق سراحها، كما فعل ويفعل مع حملة السلاح حيث ليس لمشروعهم السياسي أي أفق.
ثانياً: خلفية نشوء غالبية قوى المعارضة السورية التي لم تعط تاريخياً حقوق الإنسان وكراماته الأولوية التي تستحقها أمام تقدم حساباتها السياسية والعسكرية في مواجهة النظام، مما أطلق يد القمع وأضعف الاهتمام بملف المعتقلين والمختفين قسراً خلال سنوات الصراع، ولا يغير هذه الحقيقة منح هذا الملف الإنساني اهتماماً خاصاً في مفاوضات جنيف واجتماعات آستانة الأخيرة، لتوظيفه، للأسف، ورقةً للضغط السياسي! وزاد الطين بلّة تقدم وزن الجماعات الإسلاموية المسلحة واستهتارها المزمن بحياة البشر وحقوقهم، عبر تشريع العمليات الإرهابية المقززة في أي مكان وضد أي كان، وما تمارسه لنصرة مشروعها الديني من انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان في أماكن سيطرتها.
ثالثاً؛ والأهم: الانتكاسة التي تعرض لها المناخ العالمي المدافع عن حقوق الإنسان؛ إنْ لجهة تقدم استراتيجية لمكافحة الإرهاب الجهادي منحت الأولوية لخطط الحشد الأمني على حساب قيم الحرية والكرامة، وإنْ لجهة تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة والغرب عموماً مع تنامي وزن التيارات الانعزالية والشعبوية وانتشار دعايتها العنصرية والأنانية، وإنْ لجهة المكانة التي باتت تحتلها روسيا وإيران في الإقليم بسجليهما المهين في حقوق الإنسان وبإشاعتهما منطق القوة والغلبة لفرض مصالحهما وتمرير أهدافهما السياسية والآيديولوجية.
والنتيجة؛ أن الجلاد لا يزال يسرح ويعيث قتلاً وترويعاً على هواه، وينظر بعين الاستخفاف إلى المنظمات الأممية العاجزة، وإلى عالم ينشغل بهمومه ومصالحه الضيقة، متسائلاً بمكر واستهزاء: ماذا أنتم فاعلون حين ترى عيونكم أن هذه الوحشية في التنكيل والفتك ليست نهاية ابتكاراتي؟ أو حين تدركون أن هدوء المعارك وصمت المدافع لن يوقف ماكينة الاعتقال والتعذيب والقتل، بل سوف تزداد جرعاتها بأبشع صورها لوأد أبسط دوافع الرفض والتمرد، ولتلقين كل مطالب بالحق والحرية والكرامة درس رعب لن ينساه؟!
هل كثير على السوريين أن يعضدهم مجتمع دولي لا يهدأ لنصرة حقوق الإنسان ولا يتردد أو يتأخر، حين يرى «صور قيصر» المسربة، في اتخاذ كل ما يمكن من إجراءات كي ينال من الجلادين؟! أو أن تساندهم مظاهرات عفوية تعم مختلف المدن والعواصم تعلي شأن حياة البشر وتدين ما يحدث من انتهاكات وتشدد على إحالة المرتكبين إلى قضاء عادل يقتصّ منهم جراء ما ارتكبته أيديهم من آثام؟! وأليس من أبسط واجبات الحضارة الإنسانية نصرة أبنائها المضطهدين، أو إشعارهم، على الأقل، بأن من يشاركهم العيش على هذا الكوكب، على اختلاف منابتهم وأديانهم وإثنياتهم، يقفون معهم ولن يسمحوا بوجود كائنات تنتحل صفة البشر وتصل إلى هذا الحد من الفتك والتنكيل بحياة الناس وكراماتهم؟!