خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

موضة الاعترافات الروسية

منذ الاعتراف الخطير الذي أفضى به خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عن ستالين وجرائمه، دخلت روسيا في موجة اعترافات ما زالت تتدفق على وسائل الإعلام. لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن اعتراف جديد من وزير أو مدير معمل، أو مدير شرطة أو كنّاس شوارع ينشر رسالة في «البرافدا» (وبالمناسبة لمن لا يعرف الحقيقة أن «برافدا» تعني بالروسية «الحقيقة»)، الكل يعترف فيها بأن كل شيء في ميدان عمله كان خطأ أو جريمة أو انحرافاً.
لقد اعترف غورباتشوف بأن كل محاكمات ستالين كانت مزيفة وإجرامية. ومضى التلفزيون الروسي ليعترف بأن برجنيف كان انتهازياً ومضى ليبني لنفسه قصراً في باكو لم يسكنه غير يومين في السنة. ومضى المارشال أخروماييف ليعترف بأن عملية أفغانستان كانت خطأ في خطأ. ومضى خبير عسكري آخر فاعترف بأن إصرار ستالين على الدفاع عن ليننغراد (كما كانت تُسمى سابقاً) ضد الغزو النازي بما كلّف موت عشرات الألوف من الأبرياء، كان خطأ وجريمة. وكان عليه أن ينسحب ويترك المدينة لمصيرها.
وسمعت أيضاً أن ضابطاً روسياً اعترف بأن كل المساعدات السوفياتية التي قدموها لمصر في عهد عبد الناصر في مواجهة إسرائيل ذهبت هباءً وعبثاً. وأستطيع أن أتصور ضابطاً روسياً آخر سيعترف بعد زمن قصير، عاماً أو عامين، بأن كل ما زودوا به بشار الأسد من أسلحة وأموال وبراميل غازات سامة كان غلطة كبيرة لم تسفر عن شيء غير هلاك مئات الألوف من المدنيين والعسكريين وضياع مليارات الروبلات من المساعدات لبشار الأسد ونظامه الإجرامي. وأكثر من ذلك سيجدون أن فكرة إقامة قواعد عسكرية في سوريا كان حماقة ومضيعة للوقت. ولن يبهجني شيء أكثر من التعليق على هذا الاعتراف.
أستطيع أن أتصور أيضاً أن المواطنين الروس سيعترفون بأن كل اعترافاتهم السابقة لم يكن لها أي ضرورة، فأخطاؤهم وتخبطاتهم معروفة لدى العالم. والشائع هناك في موسكو أن معظم الاعترافات المشينة كانت على حساب من ماتوا ولم يكن هناك من يدافع عنهم. في زمن ستالين كانت الاعترافات تأتي من رجال أو نساء أحياء مما يعطي ستالين الفرصة لإصدار أمره بإعدامهم رمياً بالرصاص. هكذا كانت الموضة.
لا أريد أن أغبن في شيء حقوق البريسترويكا التي وضعها غورباشوف، وما أدت إليه من الاعترافات المهمة التي تدفقت على ألسنة مَن مرّوا بتلك التجارب المريرة. ولكنني لن أستغرب، ويجب ألا نستغرب، أن يظهر ويقول إن ذلك السلوك من غورباتشوف كان خطأ أسفر عن صفحة مشينة من الفساد والسلب والنهب وعمليات من السرقات التي تنتظر الاعتراف من أصحابها وساهموا فيها.