نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

مشروع سياسي قتلته «السذاجة»

تشكل وعينا حول أميركا كدولة عظمى على أن سياساتها ومبادراتها تنتج من خلال مؤسسات تمتلك المعلومات الكافية حول أي قضية تتصدى لها.
ظل هذا الوعي مسيطراً علينا وبقرائن دامغة، إلى أن جاء الرئيس ترمب، الذي قدم نموذجاً مختلفاً لصنع السياسات والمواقف، ولم يعد مستغرباً وصف الكثير منها بالسذاجة.
وأكثر ما يجسد ذلك... صفقة القرن...
رحب العرب والفلسطينيون بوجه خاص بإعلان الرئيس ترمب، عزمه على إنجاز تسوية تاريخية للصراع العربي - الإسرائيلي ومركزه القضية الفلسطينية.
كان للترحيب مبررات منطقية، ذلك أن مطلق مشروع التسوية هو الرئيس الأميركي، الذي كان في الذهن أنه الرجل الوحيد القادر على إقناع إسرائيل بقبول تسوية هو صانعها.
وثانيها تبني الرئيس ترمب لنظرية تراجع اليقين بها في زمن «الربيع العربي»، وهي أن حل القضية الفلسطينية هو المفتاح الأكثر فاعلية لحل قضايا الشرق الأوسط الكثيرة والمتداخلة والمتفجرة.
ومثلما بالغ الرئيس الأميركي في إظهار ثقته بالنجاح، بالغ العرب في تشجيع الرجل، وإظهار الاستعداد لمعاونته في هذا الأمر الذي اقترن تاريخياً بالمحاولات الفاشلة.
العام الطويل الذي عمل فيه بدأب ومواظبة الثنائي كوتشنير وغرينبلات، مع كل الأطراف لبلورة صيغة متفق عليها كأساس للحل؛ هذا العام حفل بوقائع سميت بالتمهيدية، أنتجت حذراً عربياً وعالمياً جماعياً، وغذّت شكوكاً وصلت يوم موقعة القدس إلى درجة اليقين، بأن ما سرّب عن الصفقة وأُيد أميركياً ضرب جذور المسلمات العربية إزاء الصراع مع إسرائيل، تلك المسلمات التي لو تم التخلي عنها في أي محاولة من محاولات صنع السلام، لانتهى الأمر ولما ظل في الواقع شيء اسمه النزاع العربي - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
انتبه المتابعون لوقائع التحضير لصفقة القرن إلى أن صناعها أقاموا يقينهم بنجاحها على عدد من الفرضيات الساذجة التي تنم عن جهل فادح في معرفة أسس وأعماق ومؤثرات القضية الشرق أوسطية ومركزها الفلسطيني، وهذا أدى إلى استنتاجات سطحية حول مواقف الدول العربية، ومدى ارتباطها بالقضية الفلسطينية ورمزها المعنوي الأكثر سطوعاً وجاذبية «القدس».
أي محلل سياسي وأي صانع قرار، لا ينكر جدية النزاع الخليجي مع السياسة الإيرانية، التي لا تخفي سعيها في الهيمنة على ما حولها وحتى على المدى الأوسع، المنطق البسيط يقول حيال ذلك إن مواجهة السياسة الإيرانية تتطلب تمسكاً بالمواقف القومية تجاه النزاع مع إسرائيل وليس تخلياً عن هذه المواقف. وبحساب منطقي بسيط فإن السجال مع إيران والدخول الأميركي الإسرائيلي على خطه، أفرز معادلة سياسية مضادة مفادها «لكي يحجم النفوذ الإيراني ويحد من التوسع الذي يتخذ غالباً غطاء فلسطينياً مقدسياً، فلا مناص من حل القضية الفلسطينية وفق المبادرة العربية للسلام التي وضعتها السعودية وتفهمتها إن لم نقل تعاملت معها إدارات أميركية سابقة، ولا تزال تشكل رؤية واقعية متوازنة لسلام عربي وإسلامي وفلسطيني إسرائيلي».
في منتصف عام الإعداد لصفقة القرن، وربما قبل ذلك، انتشر ضباب كثيف حول المواقف العربية منها، وأثر على كثير من المحللين السياسيين خصوصاً حين تواترت تسريبات تعتبر أن الأمور صارت في طريقها إلى النهاية، فالقدس استبدلت بها قرية مجاورة هي أبو ديس، وقضية اللاجئين أدخلتها السياسة الأميركية إلى طور الاحتضار، ليس بالكلام وإنما بالأفعال وما حدث مع «الأونروا» هو الدليل الأوضح على ذلك. أما الدولة الفلسطينية المنشودة والتي تفترض أن تكون توأم الدولة العبرية في سياق حل الدولتين، فستقوم في غزة تتبعها بعض البؤر التي لا تريدها إسرائيل في الضفة.
تبادل الفلسطينيون والعرب ما يكفي ويزيد من الاتهامات بالتواطؤ، وصارت صفقة القرن التي لم يعرف منها غير التسريبات، هي محور الحياة السياسية، ومركز النقاش والبحث على كل المستويات في العالم العربي.
في هذه الأيام نلاحظ تراجعاً متسارعاً في إيقاع هذه الصفقة وصدقيتها وإمكانيات تطبيقها، مع ترجيح يزداد كل يوم بأن هذه الصفقة ربما تلغى أو تودع في الأرشيف لعل معجزة تفتح لها الأبواب، وهنالك احتمال أن يطرحها ترمب، لو حدث ذلك وكل شيء متوقع عن ترمب، فلن تكون الصفقة أكثر من مبادرة أميركية تعكس موقف إدارته من الصراع والحل، وشتان ما بين هذا التوصيف وشيء اسمه صفقة القرن.