خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ليالي الندم ما أقساها من ليالٍ!

ماذا تقولون في الرجل الذي قضى حياته يدرس الماركسية اللينينية الستالينية، وحفظ جل ما سطره ستالين عن المسألة الوطنية وسواها من المسائل، وكتب القصائد الطوال في مدحه ثم قضى عشرين سنة في السجن لتأييده قرار ستالين بتقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية، وأخيراً جلس يستمع لما قاله خروشوف وغورباتشوف وسواهما من زعماء الاتحاد السوفياتي يتكلمون ويعترفون بكل الجرائم التي اقترفها ستالين وكل المشكلات التي أوقع فيها بلاده وكل بلدان أوروبا الشرقية؟ انصرف ذهني للتفكير في ذلك الرجل وما يشعر به من ندم وخيبة. قلت لنفسي يا لشقاء الليالي التي بات يقضيها بالندم المر. وعندنا الكثيرون من أمثاله.
وماذا تقولون في المرأة التي كرست جل حياتها في محبة زوجها وأنجبت له خير الأولاد وأنفقت كل ما عندها على مواصلة دراسته وإكمال تحصيله العلمي ودخلت السجن رهينة بسبب تفكيره ونشاطه، وبعد أن تبددت الغيوم وأشرقت الحياة لهما، بعث لها بورقة الطلاق لبلوغها سن اليأس والتقائه بفتاة بسن الصبا؟ قلت لنفسي يا لشقاوة الليالي التي تقضيها مثل هذه المرأة الخائبة! ولدينا من أمثالها كثيرات.
وماذا تقولون في الأستاذ الذي درس القانون والشريعة وحقوق الإنسان وأهلك نفسه جوعاً ليذهب إلى السوربون ويحصل على الدكتوراه في القانون، ويعود لبلده ليجد انقلاباً عسكرياً حدث فيه وألغى الانقلابيون كل ما درسه من قوانين وعطلوا حكم الشريعة وحولوا المرافعات إلى سيرك وشكليات كوميدية وجعلوا من المحاماة مهنة بائرة وحقوق الإنسان إلى جريمة منكرة؟ قلت لنفسي يا لشقاء الليالي التي بات يقضيها هذا الأستاذ الدكتور. وعرفنا من أمثاله الكثيرين في بلداننا العربية.
نعم. وماذا تقولون في العالم التكنوقراط الأميركي الذي يحبس نفسه في مختبره ويقضي عمره ليصنع سلكاً نحاسياً دقيقاً لا يرى بالعين المجردة ويبعث به إلى اتحاد صناعات الساعات السويسرية معتزاً بإنجازه، وبعد يومين يتسلم ذات السلك ثانية ليرى تحت المجهر أن تكنوقراطاً سويسرياً قد عمل ثقباً يمتد على طول امتداد السلك من الداخل. قلت لنفسي، يا لشقاء الليالي التي قضاها ذلك التكنوقراط الأميركي، وعندنا من أمثاله... ولا واحد!
ولكن الليالي تتفاوت في شقائها وظلمتها ونجومها. خذوا ذلك الرجل الذي قضى حياته في دراسة الفقه والشرع ثم أفتى في أواخر أيامه أن الشرع يحثه على تجنيد الصبيان باسم الدين ليقوموا بعمليات انتحارية تفتك بعشرات المسلمين وغير المسلمين وتقضي على الزرع والضرع، وعلى فراش موته يجد أن كل ذلك إنما كان إثماً وكفراً بالله، وأن كل أولئك الانتحاريين مصيرهم النار وليس أحضان سبعين حورية في الجنة.
قلت لنفسي ليلة ذلك الرجل وهو على فراش الموت أشقى الليالي التي مر بها في حياته، ليالي ندم لا يوازيها إثماً وألماً غير الليالي التي لا بد أن يقضيها بشار الأسد، الآن أو بعد آن.