عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

معركة البرقع... والانتهازية السياسية

أثار وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون ضجة واسعة ما تزال مستمرة عندما شبّه في مقال بصحيفة «الديلي تليغراف» يوم الاثنين الماضي النساء المسلمات اللائي يرتدين البرقع بـ«صناديق البريد» و«لصوص البنوك». فقد وصف البعض اللغة التي استخدمها جونسون بأنها تنفخ في نيران الإسلاموفوبيا، بينما عدها كثيرون من بينهم برلمانيون، «متاجرة سياسية» من الوزير السابق الذي يحاول تعزيز رصيده السياسي ورفع أسهمه بأي طريقة، في سعيه للوصول إلى زعامة حزب المحافظين ولو باللعب على وتر الشعبوية ومغازلة اليمين المتطرف.
رئيسة الوزراء تيريزا ماي انضمت إلى الأصوات التي طالبت جونسون بالاعتذار عن تصريحاته واستخدامه تعبيرات مستفزة. وبعد أن أشارت إلى أن الوزير السابق، الذي يعد أحد منافسيها المحتملين على زعامة الحزب، اختار لغة سببت أذى ووجدها البعض مسيئة، أكدت ماي حق الناس في ممارسة معتقداتهم الدينية وحق النساء في ارتداء الزي الذي يرتضينه.
جونسون ظل رافضاً حتى كتابة هذه السطور الاعتذار عن تصريحاته واكتفى برد عبر «مصدر قريب منه» تحدث لقناة «سكاي نيوز» التلفزيونية قائلا «إننا يجب ألا نسقط في فخ إسكات النقاش حول القضايا المهمة، لأننا إذا لم ندافع عن القيم الليبرالية فإننا نخلي الساحة للرجعيين والمتطرفين». هذا التصريح يشبه طريقة كلام جونسون في الكلام المزدوج المعنى، وفي قول الشيء ونقيضه في آن. فمنتقدوه لم يطالبوا بمنع النقاش حول موضوع البرقع أو النقاب، بل كان احتجاجهم منصباً على اللغة الاستفزازية، والعنصرية في نظر كثيرين، التي استخدمها في توصيف النساء المسلمات اللائي يرتدين البرقع، وهي لغة يغازل بها اليمين المتطرف من باب اللعب على أوتار الإسلاموفوبيا.
الأمر الثاني أن جونسون، أو فلنقل «المصدر القريب منه»، عندما يتحدث عن الدفاع عن القيم الليبرالية فإنه يستخدم الأسلوب نفسه الذي استخدمه إبان حملات استفتاء «البريكست» وكان الهدف منه رفع راية الدفاع عن «القيم البريطانية» وعن «طريقة حياتنا»، وإثارة النعرات القومية لكسب أصوات اليمين المتطرف. فالواقع أن الذي يريد أن يتحدث عن القيم الليبرالية حقاً يجب أن يكون واعياً إلى أن هذه القيم لا تعني فقط قبيلة اليمين المتطرف وشعاراته، ولا تبرر ركوب موجة الإسلاموفوبيا من باب السخرية على المنتقبات وتوصيف مرتديات البرقع بأنهن مثل «لصوص البنوك» و«صناديق البريد». فالدفاع عن القيم الليبرالية لا يتجزأ، وينبغي أن يشمل حقوق الآخرين وحرياتهم في الاختيار ولو لم نتفق معها.
جونسون من حقه أن ينتقد البرقع إن أراد، لكن من دون سخرية أو استخدام تعبيرات القصد منها الحط من قدر الآخرين. فموضوع البرقع طرح كثيراً للنقاش في أوروبا، وتناوله البعض من زاوية أنه قد يمثل مشكلة أمنية لأن الإرهابيين سبق أن استخدموه للتخفي حتى في دول عربية. المشكلة لا تأتي من النقاش إذا كان هادئاً وموضوعياً، علماً بأن البرقع دارت حوله نقاشات حتى في دول إسلامية، بل تكون المشكلة عندما يستخدم الناس أساليب الاستهزاء أو لغة التجريح في الإسلام أو المسلمين، أو يوظفه البعض في أوروبا في إطار موجة الإسلاموفوبيا الزاحفة ومحاولة التكسب منها.
الضجة حول تصريحات جونسون جاءت في وقت تحتدم فيه الصراعات داخل حزب المحافظين الحاكم ويتزايد الكلام حول مساعي بعض الطامحين إلى زعامة الحزب لكسب ود اليمين المتطرف، خصوصاً بعدما بدأ حزب الاستقلال البريطاني (يوكيب) يستعيد بعض شعبيته نتيجة تخبط حكومة حزب المحافظين في ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). لذلك فإن معظم الانتقادات الموجهة لجونسون بعد مقاله في «الديلي تليغراف» انصبت على أنه يريد استخدام الموضوع في المتاجرة السياسية ولمغازلة اليمين المتطرف. ولاحظ البعض أن جونسون التقى الشهر الماضي ستيف بانون كبير المخططين الاستراتيجيين السابق في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي استخدم كثيراً لغة عدائية ضد الإسلام. ومنذ مغادرته البيت الأبيض وجه بانون طاقاته ومنصته الإعلامية لدعم اليمين المتطرف في أوروبا، بما في ذلك اليمين المتطرف في بريطانيا وتيار «البريكست».
هناك أصوات تدعو اليوم إلى التصدي لما يصفونه بتيار الإسلاموفوبيا داخل حزب المحافظين، ومن هؤلاء البارونة وارسي القيادية في الحزب وأول سيدة مسلمة تتولى منصباً وزارياً إبان فترة رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون. فقد تصدت وارسي لتصريحات جونسون وطالبت مجدداً بتحقيق حول تنامي الإسلاموفوبيا في حزبها، على غرار ما يقوم به حزب العمال البريطاني المعارض حول موضوع معاداة السامية بعد الانتقادات العنيفة التي وجهت له والاتهامات بأنه يغض الطرف عن «أجواء معادية لليهود» يغذيها تيار داخله. ولا شك أن كثيرين سيقارنون بين أصداء هذه الحملة القوية الموجهة ضد حزب العمال، وبين رد فعل حزب المحافظين على الاتهامات القائلة بوجود جهات داخله تتاجر سياسيا بموجة الإسلاموفوبيا، لمعرفة ما إذا كان هناك كيل بمكيالين.
الأرجح أن الضجة حول تصريحات جونسون لن تستمر طويلاً، لكن النقاش حول الإسلاموفوبيا لن يهدأ على الأقل في المستقبل المنظور، ما دام هناك سياسيون مستعدين لاستخدامه في المتاجرة السياسية.