سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الزعيم والإنسان: محاكمة الشلقلق والملقلق

كان القرن العشرون قرنَ القرون في تاريخ البشرية: حربان عالميتان، وحروب إضافية أخرى لا عدّ لها، في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، وفيه قامت وسقطت ثورات وانقلابات، ومعها «محاكمات» ثورية صورية دامية وطاحنة، وأحياناً، طريفة على دمويتها. ولعل الأكثر طرافة بينها في هذا الجزء البائس من الأرض، كانت «محكمة الشعب» في بغداد، التي أقامها الزعيم عبد الكريم قاسم، لمحاكمة المتآمرين عليه. وعين رئيساً فيها ابن خالته العقيد فاضل عباس المهداوي. وكان السيد العقيد شديد الإعجاب بابن خالته وهو من أطلق الجملة الشهيرة:
«ماكو زعيم إلا كريم».
كانت المحاكمات تجري كل يوم، وتنقل مباشرة من الإذاعة والتلفزيون. ولشدة ما أدخلت السلوى إلى قلوب العراقيين، سميت «محكمة المهداوي». وكان المهداوي محباً للشعر أكثر من القانون، فأشركه معه في المرافعات. كما كان يضفي جواً من الدعابة والسخرية، فيبدأ المحاكمة موجهاً الكلام إلى المتهمين بالقول: «اسمك. عمرك. متآمر. قومي. عميل معادٍ للثورة. عفلق شلقلق ملقلق».
ولم يكن يتردد في إعلان ولائه للزعيم الأوحد بالقول: «أنا كلمة من كلماته ولحظة من لحظاته». وكان أحد المتهمين عند المهداوي عبد السلام عارف، الذي كان متحمساً للثورة والزعيم، بحيث سمى الدولة «الجمهورية العراقية الإلهية».
وحرص الزعيم عبد الكريم على صوره الخلفية الاجتماعية التي جاء منها. فقد كان والده نجاراً. وكان يسكن في بيوت الضباط، ويطلب من ناديهم عشاءً واحداً لا يتغير «شيشان كباب وصمونة وقطعة طماطم وبصلة».
ووقف أمام محكمة المهداوي بعض من أبرز شخصيات العراق، ومن بينهم الدكتور فاضل الجمالي، الذي نادى المهداوي عليه باللازمة نفسها: اسمك، عمرك، شلقلق، ملقلق! لكن هل تعرف شيئاً؟ كان فاضل عباس المهداوي «رؤوفاً» أحياناً بالمقارنة مع المحاكمات الثورية العربية الأخرى. يصدر أحكام الإعدام، ثم يخفضها إلى المؤبد. لكن ذلك لم يعد يفيد في شيء. لقد ثقب سد الدم في العراق، وراح السد يتشقق، والدم يستسقي الدم. والشعر يستدعي الشعر. فعندما وقف العقيد رفعت الحاج سري يدافع عن عبد السلام عارف، رأى أن يرمي عليه سحر الشعر فقال:
حتى إذا نضج الشواءُ وقيل حسبك يا لهبْ
جاؤوا ولست بعارف من هم! يزكون التعب
لم يكن المهداوي وحده يلقي القصائد العصماء في قاعة المحكمة، بل المحامون أيضاً. وظلت وقائع المحاكمات تباع في شوارع بغداد إلى سنوات طويلة. ومنها التعابير التي كان يستخدمها ضد عبد الناصر والناصريين. فالمشير عامر كان «المشير الفطيس». وعبد الناصر نفسه كان «الدرنفيس عميل الانكليس والفرنسيس». وقد أعدم المهداوي مع الزعيم في انقلاب فبراير (شباط) 1963 بعد محاكمة سريعة. فالرفاق لا يريدون التأخر عن موعد النوم.
إلى اللقاء...