داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

التاريخ لا يُجري عمليات تجميل

تولي المجلات والصحف الخليجية اهتماماً متزايداً بتاريخ دول الخليج العربي دون أي محاولة لتغليفه بالسيلوفين. لم يقل الأشقاء الخليجيون يوماً إننا كنا دولاً غنية ومتقدمة ومرفهة. يتذكر القراء من جيلنا أن الأعداد الأولى من مجلة «العربي» الكويتية التي صدرت في أواخر عام 1958 أفرد رئيس تحريرها العالم المصري الكبير الراحل أحمد زكي صفحات للغوص في مياه الخليج بحثاً عن اللؤلؤ وصفحات عن قوارب الصيد المتواضعة والصناعات الشعبية والتراثية. ونجد اهتماماً متواصلاً بذلك التاريخ البدوي الأصيل في مجلات التراث والثقافة الشعبية الخليجية وتركيزاً على التقاليد والقيم والمساجد والفن والعمارة وقوافل التجارة البرية والبحرية العريقة والشخصيات التي قادت حركة النهضة في بواكيرها الأولى. وأعادت دور النشر الخليجية إصدار كتب المستشرقين الذين بحثوا ونقبوا ووثقوا كل ما شاهدوه في تلك الديار التي شهدت فجر الإسلام وفتوحاته الأولى.
لم يكن التراث العربي الجاهلي ثم الإسلامي شعراً ومعلقات وقصص غرام بدوية وحروباً قبلية فحسب، بل كان أيضاً سفناً تجوب البحار وتجاراً وصلوا إلى الهند والصين واليابان. واكتشفت شعوب تلك البلدان الآسيوية القصّية أنها لا تعيش وحدها في هذه الأرض، وإنما هناك شعوب وأمم أخرى لها لغاتها وآدابها وطربها وأساليب حياتها.
كان سوق عكاظ في زمن الجاهلية، أشهر وأقدم جامعة لغوية، ليس في الجزيرة العربية فقط، وإنما في العالم القديم كله. وظلت اللغة العربية معافاة بسبب منافسات الشعراء والأدباء في عكاظ، فسمعنا وقرأنا عن شعراء المعلقات السبع. لكن مع مجيء الإسلام قبل أكثر من 1400 سنة صار «القرآن الكريم» هو اللغة العربية وقواعدها بإعجازه الإلهي وقدسيته.
وإذا كنا قرأنا في كتب الأدب العربي القديمة عن النحويين المهتمين بقواعد النحو والصرف، فإن هؤلاء لم يعودوا يعملون في عصرنا الراهن إلا في وظائف تدريس العربية في المدارس والكليات. لم تعد لهم تلك الحظوة الفاخرة في مجالس الخلفاء والأمراء والحكام، والمحظوظون منهم توظفهم أجهزة الإعلام من إذاعة وتلفزيون وصحف ومجلات لتصحيح أخطائنا اللغوية وتصويب نشرات الأخبار التي لا تفرق بين سلطنة عُمان والعاصمة عَمان.
تفخر البصرة والكوفة دائماً بكوكبة روادهما من النحويين، مثل أبي الخطاب عبد الحميد الأخفش الكبير، ويونس بن حبيب، وأبي فريد الأنصاري، وسيبويه، والخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض. كانت مدينتا البصرة والكوفة هما المرجع التاريخي واللغوي لسلامة اللغة العربية وسلاستها، والعاصمة المشتركة للغة العربية ومصنعها الوحيد الذي لا يقبل التقليد لا في الصين ولا في تايوان. لا يجرؤ أحد على تجاوز البصرة أو الكوفة، والاثنتان في جنوب العراق، ولغويوهما ونُحاتهما هم أولياء اللغة الصالحون وحماة أخوات كان وإن وحيثما والضمة والفتحة والكسرة.
لكن هذا صار من الماضي البعيد أو القريب. لم يعد أحد يتحدث اللغة العربية الفصحى السليمة في البصرة أو الكوفة. حتى شيوخ وملالي الجوامع والحسينيات يخطبون اليوم بلغة هجينة تجمع بين العامية ومصطلحات المحللين السياسيين «الاستراتيجيين». انتهى درس اللغة العربية وجاء درس اللغة الفارسية التي تمددت في جنوب العراق فصارت لغة أولى قبل العربية في التخاطب «الميليشياوي» و«الطائفي». كانت بعض الدكاكين والفنادق في مدن جنوب العراق، ومن بينها البصرة والكوفة، تعلق لافتات تقول: «نحن نتحدث الفارسية» لاجتذاب الزوار الإيرانيين الذين يفدون في المناسبات الشيعية، وما أكثرها. أما اليوم، بعد أن سيطرت طهران على القرار السياسي العراقي، فهناك من يفكر في وضع لافتات تقول: «نحن لا نتحدث الفارسية» تعبيراً عن الرفض الشعبي العروبي لتداعيات احتلال العراق أميركياً، ثم إيرانياً. «سيبويه» كان فارسياً، لكنه لم يأتِ إلى البصرة محتلاً أو محتالاً كما فعل غيره بعد ثلاثة عشر قرناً على رحيل ذلك العالِم اللغوي الجليل.
وأمسك الموضوع من زاوية أخرى: نريد أو لا نريد، نعترف أو لا نعترف، نحن قوم يكره بعضنا التاريخ. تستفزه حكاياته وأحداثه وشخصياته. لديه عقدة اسمها الخوف من التاريخ «فوبيا التاريخ». والغريب أن تاريخنا ليس فيه ما يُخجلنا أو يجعلنا أمة شاذة بين الأمم.
كل الأقوام حاربت وانتصرت وانكسرت، لكنها لم تنكر تاريخها ولا أغمضت عيونها عن الحقب السوداء والظلم والاستبداد والقهر والفقر والجهل والسخرة والعبيد. من الأصالة والشجاعة أن نقرّ: هذا هو تاريخنا بقضه وقضيضه. التاريخ لا يُجري عمليات تجميل ولا ترشيق ولا تلوين ولا «مونتاج» ولا رقابة. نحبها أو نكرهها: هذه هي البضاعة.
ما الذي يحدث؟ كلما صدر كتاب فيه وجهة نظر تاريخية مختلفة عن ما نحفظه جيلاً تلو جيل، قامت الدنيا. كلما عُرض فيلم سينمائي يتناول وقائع تمس تاريخنا، شهرنا أسلحتنا وأنيابنا وأظافرنا وصرخنا مع فيلسوف التاريخ العربي فهد بلان: حِنّا للسيف والليل.. يا ويل يا ويل يا ويل! ويمتشق الرقباء العرب سيوفهم الخشبية ضد أي فيلم سينمائي أجنبي يتناول جزءاً من تاريخنا الذهبي. وللأسف، لم يقرأ السينمائيون الأجانب المعلقات السبع للحارث بن حلزة اليشكري، وزهير بن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم، ولبيد بن ربيعة العامري، وامرئ القيس، وعنترة بن شداد العبسي. فلو قرأوها لرددوا مع امرئ القيس: «قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ.. بِسِقْطِ اللِوَى بَيْنَ الدَخُولِ فَحَوْمَلِ». ورَدَدوا مع عمرو بن كلثوم: «أَلاَ هُبِي بِصَحْنِكِ فَأصبحيْنَا.. وَلاَ تُبْقِي خُمُوْرَ الأَنْدَرِيْنَا». ورَدَدوا مع طرفة بن العبد: «لِخَولة أطْلالٌ ببرقَة ثَهمَدِ.. تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ». وهزوا رؤوسهم طرباً مع عنترة بن شداد: «يَا دَارَ عَبْلـة بِالجَواءِ تَكَلَمِي.. وَعِمِي صَبَاحاً دَارَ عبْلة واسلَمِي».
يريد السادة الرقباء العرب من السينمائيين الأجانب أن ينتجوا أفلامهم على مقاساتنا وكتاتيبنا ونظاراتنا وأذواقنا ومَوّالاتنا ومقاماتنا ومخيمات لجوئنا وزنزانات سجوننا وتصريحات مسؤولينا وحماس مذيعينا وويلات فهد بلاننا.
إنه الخوف من التاريخ. دع عنك سفسطة «تشويه التاريخ والمغالطات» فهذه ستارة مهترئة لم تعد تصلح للعصر، لكنها تناسب موظفين جهلة يهيمنون على مكاتب الرقابة. وأنا أقول ذلك مشيراً إلى أنني كنت أعمل في رقابة المطبوعات والأفلام السينمائية في بعض سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وواضح اليوم أن نظرية الأواني المستطرقة هي السائدة في العالم العربي. فهناك «خوف مزمن» من التاريخ ووصاية ثقيلة على عقول الناس. إذا كانت هناك أخطاء فنّدوها، لكن لا تخفوها تحت السرير أو تغمضوا عيونكم وعيوننا حتى لا نرى الرصيف الآخر.