محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

كُمَّثراة وردية مقلوبة

الطبيب الذي رأى الرحم لأول مرة عبر شق ولادة قيصرية كان يحضرها وهو طالب ضمن دورة طب النساء والتوليد قبل التخرج، ظل ينمو في داخله اليقين وهو يرى أعضاء أخرى تكشف عنها الجراحات المفتوحة التي يحضرها، أن الرحم هو أجمل أعضاء الجسم على الإطلاق. جمالات تشكيلية ومجازية يشع بها جميعاً هذا العضو الذي يوحي ظاهره بهيئة ثمرة كمَّثرى مقلوبة وردية اللون عظيمة الحجم مع اكتمال الجنين داخلها. أما جوهره فيومئ إلى أرض لهفى مشحونة بشوق عارم لبذرة تحتضنها، حضناً يمد الغرسة بكل ما تحتاجه لتتغذى وتتنفس وتكبر ويكبر الحضن معها. يتضاعف حجمه مرات ومرات متحملاً مشقة هذا التمدد هوناً على هون، ويبكي دماً إذا أُجهضت غرسته، ودماً يبكي كل شهر إذا لم يُكرم بغرسة يحتضن جذورها وتنمو في كنفه حتى الاكتمال.
وما أعمق المعنى في أن رحم الأنثى البكر هو آخر عضو يتحلل بعد الموت، وهي حقيقة وعاها متأخراً وإن كان عاينها وهو طالب مدرسة شاهد هيكلاً عظمياً عارياً لصبيَّة قُتلت على هامش قصف الطيران الإسرائيلي لمطار قرية «شاوة» في صيف العام السابع والستين بينما كانت تعمل في أحد حقول القرية المحيطة بالمطار، وكانت هناك تلك الكمَّثراة المقلوبة وإن اربدَّت وتغضنت مشرئبة مثل قبضة صغيرة تجاهد في النهوض وسط عظام الحوض التي أبيضت تحت شمس ذلك الصيف الحارق الأليم.
أما أعجب وأحدث تجليات الرحم، فقد سطعت في سبتمبر (أيلول) 2014 مع ولادة صبي سليم بعملية قيصرية من رحم مزروع لأم شابة بأحد مستشفيات جامعة غوتنبرغ السويدية، أنجزها فريق بحثي سويدي تتمركز في قلبه جراحة أنثى هي الدكتورة ليزا يوهانسون التي قامت بإخراج الوليد في أسبوعه الثاني والثلاثين بينما كانت الأم تتعرض لحالة تسمم حمل خطِرة، فأنقذت المولود وأنقذت الوالدة، وذكَّرت الدنيا بأن جرَّاحة أنثى، عربية، كانت رائدة العالم على هذا الدرب العلمي الطبي المتقدم.
قبل ثلاثة عشر عاماً من مولد طفل الرحم المزروع في السويد، قامت الطبيبة والعالمة السعودية الشابة وفاء محمد فقيه، بإجراء عملية زرع رحم ناجحة لسيدة في السادسة والعشرين استؤصِل رحمها إثر نزيف رَحِمي هدد حياتها، وزُرِع لها رحم من متبرعة في السادسة والأربعين كان أي حمل جديد يمثل خطورة مميتة لها، وعاش الرحم المزروع يحمل جنيناً بكفاءة تامة لثلاثة أشهر حتى حدثت جلطة مُفاجِئة قطعت التروية الدموية عن هذا الرحم فتموَّتت أنسجته وتوجب استئصاله، وكان ذلك - من المنظور العلمي - أول النجاح الذي استكملته السويد بعد قرابة عقد ونصف.
عملية زرع الرحم ليست كأي عملية زرع أعضاء أُخرى، لهذا تأخرت كل هذا الوقت حتى تتكلَّل بالنجاح، فثمة عوائق كثيرة تحول بينها، وهي جميعاً قابلة للنقاش، إضافة لتعقيداتها العلمية والجراحية حتى إتمام الولادة، فالرحم المزروع يظل جسماً غريباً تتوجب حمايته من طرد جسم المتلقية له وفي قلبه جنين، وهو لا يُبدي تقلصات المخاض، ولا تكون الولادة إلا قيصرية يتضرر بها الرحم فيُستأصل بعد الولادة، وهذه كلها أعباء جسيمة، ليست على الفريق الطبي وحده، بل على المتلقية حتماً، وعلى المتبرعة بدرجة أقل، وهو ما اجتازته التجربة السويدية بنجاح، فتجلَّى الرحم بأحدث جمالات مجازاته.
المتبرعة كان عمرها 62 عاماً ورحمها ودَّع آخر حمل له منذ ثلاثين سنة بعد إنجابها لعدة مواليد صاروا آباء وأمهات، وقد ارتضت التبرع به لزوجة شابة من صديقات العائلة وُلدت من دون رحم وإن كان كل ما فيها سليماً. الجديد والمذهل في هذه التجربة أن هذا الرحم المسن ما أن استقر في حوض المتلقية الشابة وتم رفده بأوعيتها الدموية الفتية حتى تجاوب وكأنه لفتاة في العشرين، وتألق تجاوبه مع الجنين كما أرض خصبة تتلقى بذرة عفية، فكأنه يجسد أمثولة تشدو: ليس ثمة أرض بُور، ما دمنا نُحسن تخصيبها وريها وغرسها، فالرحم نظير الأرض، والأرض رحم الدنيا.