توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

فكرة التقدم باختصار

لو سألتني عن تعريف مختصر لفكرة التقدم، لأجبتك بأنها تحوّل الإنسان من أسير لقيود الطبيعة، إلى سيد يتحكم فيها أو في جوانب منها. إنه تحول يحدث باستمرار ولا يكتمل مطلقاً. التقدم ليس مشروعاً محدد النهايات. بل حركة متواصلة طالما بقي الإنسان على هذا الكوكب. قارن إنسان اليوم بنظيره الذي عاش في العصور القديمة. سترى أن جميع الفوارق تقريباً، تكمن في علاقته بالطبيعة.
عثر الإنسان على مفتاح التقدم، يوم أدرك أن الكون ليس صندوق أسرار مغلقاً. بل كتاب مفتوح يعمل وفق نظام واحد هائل الحجم. لا يمكن للإنسان الإمساك به كله. لكنه يتعرف تدريجياً على أجزائه وعناصره. وكلما فهم جزءاً، تمكن من تكييف علاقته به واستثماره في تطوير حياته.
مفتاح التقدم إذن هو الإيمان بأن كل ما في الكون يعمل وفق قانون ثابت، هو سنة الله في الخلق. وكل جزء من هذا القانون آية، تدعو الإنسان لفهمها واستيعاب مخرجاتها، من أجل استخدامها وليس الفرجة عليها، أو الانبهار بما تنطوي عليه من بديع الصنع. نظام واحد، يشمل كل شيء فيه: الأفلاك والمجرات، والحجر والشجر والحيوان والإنسان، وكل مخلوق جامد أو حي.
الخطوة التالية هي الإيمان بأن هذا القانون منطقي، يمكن لعقل الإنسان استيعابه وفهم غوامضه وإدراك أعمق أعماقه. فهم منطق الأمور يعني أن فهم بداية المعادلة يمهد الطريق الموصل إلى نهايتها، كما أن فهم نهايتها يسهل استيعاب المسار الذي انتهى بها، فكل طرف يقودك إلى ما يقابله.
الخطوة الثالثة في مسار التقدم، هي الإيمان بأن الإنسان كائن تتطور قابلياته الذهنية والسلوكية والروحية، كلما ازدادت معارفه. تطور المعرفة الإنسانية يقود لتحولات شبه قسرية، في العلاقة بين الناس، وفي القيم الناظمة لها. وهذا ينعكس بالضرورة على سلوكهم اليومي وتفكيرهم في المستقبل. الشرائع والقوانين والأعراف والتقاليد والأخلاقيات والآداب، تتعرض لنفس المؤثرات. قد يظن أحدنا أنه يستطيع تثبيت القيم والأعراف والعلائق، وحمايتها من تأثير التاريخ وتطور المعرفة. لكن هذا وهم، يمر الزمن فيكشف فساده.
يتجسد تقدم الإنسان على شكل سياحة في الكون، مادية واقعية أو افتراضية أو تخيلية. فهو ينتقل بين أصناف المعارف وأنماط العيش، ويتجاوز قيود الجغرافيا والزمن، فيرى نفسه متحرراً مما قيد أسلافه. وخلال هذه الحركة المادية أو الذهنية، يضيف أبعاداً جديدة إلى ذاته، وتتعدد دوائر هويته وانتماءاته، ويتفوق على مألوفاته وموروثاته، فلا يرى نفسه جديراً إلا بما أملاه عليه عقله وما اختبره بحواسه، أو ما انجذب إليه.
في هذه السياحات، يحاول الإنسان شق حجاب الغيب والعبور من جذر المجهول. فيفلح حيناً ويخفق حيناً آخر. لكنه في كلا الحالين، النجاح والفشل، يتعلم أشياء جديدة، كما يكتشف الذات التي يريد أن يكونها يوماً ما. تطور المعرفة يقود بالضرورة إلى تغيير رؤية الإنسان لنفسه وعالمه. يتحرك التطور دائماً في الاتجاه نفسه: من الخضوع للغير إلى الاستقلال عنهم، من التسليم للطبيعة إلى التحكم فيها، من المحلي إلى الكوني.
تصميم الاستراتيجيات الثقافية والتعليمية، بل والنظم الداخلية للمجتمعات، ينبغي أن يقوم على هذه الحقيقة: أن العالم يتغير بصورة متسارعة، وأن التغير يؤثر مباشرة في الناس المعنيين بتلك الاستراتيجيات والخطط. الناس يميلون إلى الاستقلال بحياتهم، ويزدادون قدرة على التحكم في عالمهم.