فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الظاهرة السوشلية والتنمر ضد السلطات

جهاز ذكي أو أكثر بيد كل شخص. هيئة الاتصالات السعودية تتحدث عن 43 مليون مشترك بالهاتف الجوال بالسعودية. وبالتأكيد فإن النسبة قريبة منها بدول الخليج. جل المشتركين يستخدمون التطبيقات المصاحبة، وهي أدوات مخاتلة وغشاشة وواهمة، يبدو لمستخدمها أن قدرته على التأثير مهولة، وكل متابع لهذه الظاهرة السوشلية يدرك أن جيلاً من المعاتية يتشكّل بطريقة مرعبة.
ظاهرة أضعفت الذكاء، ودمّرت الكتاب، وبددت مواهب الحفظ، وجعلت هوايات مثل الخط بالورقة والقلم من ذكريات الماضي.
خطورة الظاهرة تتمثل بآثارها الكارثية على المجتمعات. يوشك أن يحل الجهاز محل النظام. مثلاً في ذروة اهتمام السعودية بموسم الحج يقوم شخص بالعدوان على رجل أمن، وتهديده النظام العام وعصيانه، وبهذا اعتداء على ممثل «العنف المشروع للدولة» كما يعبّر ماكس فيبر.
لا تكفي إجراءات ضبط أسعار للإعلانات في وسائل التواصل، بل الأهم لجم هذه الحالة وإعادتها لحالتها الطبيعية، لأن تنمرها على النحو الذي نراه فيه تهديد عميق لكيان الدولة، وفيه مخاتلة لوعي المجتمع، وبه استهتار بالأنظمة والقوانين، وانفلات مصحوب بغرور فج عن القيم الضابطة للمجال العام.
من الملاحظ أيضاً استخدام تلك الوسائط لتغذية أمراض موجودة، أو استنبات نعرات جديدة مما يعزز فرص الاقتتال المعنوي، وإشعال الحرب الأهلية الرمزية، وإيقاظ الهويّات الاستئصالية، وقد تستغل الحكومات الإرهابية نفوذ أولئك لتبييض مشاريعها، وتجذير الحالة الميليشياوية بجماهير تلك الظاهرة ومعظمهم من الأجيال الفتية المتحمسة، فيتحولون إما إلى ثوريين مارقين، أو إرهابيين مدمرين، أو مجرمين محترفين، والدول المدمنة على دعم السوشليين باتت معروفة، وقد اكتوت بنهارها دول المنطقة والعالم.
إن من الحمق وصف كثرة الثرثرة بأنها نوع من حرية التعبير، بل المطروح بتلك المنصات ينصب على الاستعراض المالي، والتهريج اللفظي، والعته الشخصي، ولا بد من إلجام العامة عن الثرثرة، وعلى المؤسسات القيام بدراسات تشريعية مستفيضة لتقنين التوجيه السوشلي.
من الخطورة أن تعزز هذه الظاهرة لقيم مناوئة للإنسانية، ومن أخطر منتجاتها الامتلاء غير المبرر بالذات، وتزداد الآفة حين تشترك المؤسسات الحكومية باستقطاب أولئك للقضاء على ظواهر معينة، أو الاستنجاد بهم للدعاية لها، وقد رأينا الصدى السلبي لذلك الاستخدام. كما دمّرت الظاهرة السوشلية المسافة بين الثرثرة بالمجالس والمقاهي، وبين التحليل المعرفي المنصاع للمعايير العلمية وأدوات الفهم، والجماهير بطبعها - كما يحلل غوستاف لوبون - غير ميّالة كثيراً للتأمل، ويضيف أن معرفة طبع الجماهير مهمة جداً لحاكم الدولة، وذلك بغية الحذر من ارتدادات أي إهمال قد يحدث لفعل أهوج مضر بكيان الدولة.
غوستاف لوبون وبرغم تمايز الظاهرتين ما يحلله، وما نعاني منه، بيد أن ثمة عللاً طرحها يمكن الاستفادة منها. مثلاً يعتقد أن مسببات كثيرة تنتج الصفات الخاصة بالجمهور منها أن: «الفرد المنخرط يكتسب بواسطة الجموع شعوراً عارماً بالقوة، مما يتيح له الخضوع للغرائز الاحتشادية طوعاً، وبطريقة غير مسؤولة». ويشير إلى خسف كبير يحدث حين تتبخر الشخصية الواعية، لتحضر حالة الانقياد الأعمى، ضمن وضع من التهادي الجماهيري والعدوى المتداولة جمعيّاً، مع الاقتناع الأعمى المشترك بضرورة خوض غمار رحلة حدّها السراب.
علينا الاعتراف بأن الانفلات السوشلي قد بلغ مداه، والدولة لا بد أن تبادر فوراً بملاحقة الظاهرة ودراستها، ومن ثم تقييم حالتها، وصولاً إلى تقنين فعاليتها وضبط حدودها، أما شعارات حرية التعبير، وحقّ القول، فكلها تأتي بمرتبة تابعٍ بعد ضمان أمن الدولة ومؤسساتها.
الظاهرة بزحفها لم تتوقف عند الادعاء والتباهي والاغترار والاغتباط بالجهل، بل وصلت موجتها إلى أقدام رجال الأمن، وهذا مؤشر خطير للغاية، لأنها تهدد أسس الدولة.
روى أبو حيان التوحيدي في كتابه «البصائر والذخائر» عن أبي هُبيْرة أنه سُئل: ما حدّ الحمق؟! فقال: لا حد له.
وكذا الظاهرة السوشلية؛ إنها حالة حمق جماعية كارثية.