سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

حظ العبادي في بغداد... وليس في طهران

توقعتُ أن تسمع طهران كلاماً مختلفاً من المتحدث السابق باسم الحكومة العراقية، علي الدباغ، وهو يرد على الصفحة الأولى من هذه الجريدة، صباح الأحد، على مطالبات إيرانية متكررة هذه الأيام، بتعويضات عن الحرب العراقية الإيرانية التي اشتعلت مطلع ثمانينات القرن الماضي، ودامت ثماني سنوات.. ولكن المتحدث السابق قال كلاماً ليس هو بالتحديد، الذي على إيران أن تسمعه في هذا المقام، وأن تنصت إليه!
ولو عدنا إلى الوراء شهراً بالكثير، أو بعض الشهر، فسوف نرى القصة كلها على صورة أوضح في إطارها العام، وسوف نعرف لماذا تذكرت حكومة المرشد علي خامنئي، الآن، والآن فقط، أن حرباً دارت بين البلدين قبل ثلاثين عاماً، وأن الإيرانيين خسروا فيها، وأنهم يريدون تعويضاً عن تلك الخسائر، وأنهم تجرعوا فيها كأساً من السم، على حد تعبير الخميني وقتها، وهو يوقّع على قرار وقف القتال، وأن حكومة حيدر العبادي المنتهية ولايتها في بغداد، هي التي عليها أن تسدد فاتورة تلك الحرب!
القصة.. باختصار.. أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، دعا حكومات العالم والمنطقة، إلى الالتزام بالعقوبات التي فرضها على النظام الإيراني الحاكم.. وهو لم يشأ أن يدعو مختلف الحكومات إلى ذلك، وحسب، ولكنه قالها صريحة عالية الصوت: إما معنا.. وإما مع إيران.. ولا شيء في المنطقة الوسط!
ولأن العبادي يعرف أن له حدوداً جغرافية مباشرة مع الإيرانيين، ولأنه يعرف أيضاً أنه مسؤول في العاصمة العراقية عن التعامل مع ما صرح به ترمب.. على الأقل إلى حين تشكيل حكومة عراقية جديدة يكون هو على رأسها أو لا يكون.. فلقد كان عليه أن يبادر بإعلان موقفه مما أعلنه الرئيس الأميركي، وهذا ما حدث، وكان تعامله، في حقيقة الأمر، تعاملاً متوازناً للغاية، فقال ما معناه أنه لا يتعاطف مع العقوبات الأميركية على الدولة الإيرانية الجارة، ولكنه حرصاً على مصالح عراقية يراها من موقعه، لن يكون أمامه سوى الالتزام بها!
وما كاد الرجل يقول بهذا الكلام المتوازن، الذي لا يميل فيه إلى الجانب الأميركي، ولا إلى الجانب الإيراني، إلا بمقدار ما يحقق مصالح بلاده ويحفظها، وهذا حقه، حتى قامت عليه الدنيا في العاصمة الإيرانية، ولا تزال تقوم، والواضح أنها سوف تظل قائمة لفترة، لا لشيء، إلا لأن رئيس الوزراء العراقي قال ما يعني أنه مسؤول عراقي، وما تفرضه عليه مقتضيات مسؤوليته، وأن الطبيعي أن ينحاز إلى ما يحقق مصلحة كل مواطن في بلده، ويراعيها، ويحفظها، وأن أحداً إذا كان يتوقع منه ما هو خلاف ذلك، فهو مخطئ!
ورغم ذلك كله، ورغم أنه في تصريحه قد وزن كلامه بميزان دقيق، فإنه أحس بينه وبين نفسه فيما يبدو، وبتأثير من الحملة الإيرانية المتصاعدة عليه، بأن حديثه ربما يكون قد جاء قاسياً بعض الشيء، فراح يخفف ما ظن أنه قسوة في الحديث، وقال الثلاثاء قبل الماضي، ما معناه أيضاً، أن موقف حكومته في ملف العقوبات، ليس الالتزام بها كلياً، بالمعنى المفهوم في كلامه السابق عنها، وأن الموقف سيتركز بالأساس في عدم التعامل مع إيران بالدولار.. وبذلك.. يكون قد أخذ خطوة إلى الخلف، على أمل منه في أن تصادف خطوته عقلاً يستقبل على الجانب الإيراني، فيحسن الاستقبال، ويُقدر فيحسن التقدير، ويستوعب فيحسن الاستيعاب!
ولكنه لم يصادفه طبعاً.. ومن أين سوف يصادفه؟!.. فلو كان في طهران إعمال للعقل من هذا النوع، ما كانت الجمهورية الإيرانية في هذا الموقف الصعب الذي تقفه اليوم.. ليس مع الولايات المتحدة وحدها.. ولكن مع جيران لها في المنطقة على امتدادها، وكذلك مع دول أخرى في العالم!
ولم يكن غريباً، والأمر على هذا النحو، أن تتسرب أنباء من مواقع هنا، وأخرى هناك، معروفة بقربها من حكومة الملالي في إيران، فتعزف جميعها نغمة واحدة لا تتغير ولا تتبدل.. هذا النغمة هي أن العبادي بموقفه في موضوع العقوبات، قد قضى على حظوظه في أن يعود إلى رئاسة الحكومة العراقية من جديد، أو حتى في أن يكون طرفاً في معادلة الحكم التي لا تزال تتشكل في العراق، منذ جرت الانتخابات البرلمانية في مايو (أيار) الماضي، ومنذ جرى الإعلان عن نتائجها فكان حزب العبادي، واحداً من أربع قوى سياسية، احتلت المقدمة، ووقفت في الصدارة وحازت ثقة الناخبين!
وهكذا.. بدا التدخل الإيراني في الشأن العراقي المجرد، تدخلاً سافراً، وعلى درجة من التبجح لا يمكن أن يقبل بها عراقي، يعرف أن صوت الناخب في صندوق الاقتراع، هو وحده الذي يأتي برئيس الوزراء الجديد.. لا إيران، ولا غير إيران!.. وقد كان هذا التوجه الأعوج في السياسة الإيرانية، هو بالضبط ما أرادت إدارة ترمب بعقوباتها، أن تغيره في العقل الحاكم الإيراني.. التوجه الذي يمارس وصاية على دول جارة في المنطقة، ليست من حق الذين يمارسونها، مهما حاولوا أن يصوروا لأنفسهم أنها من حقهم.. فما يتصورونه شيء.. والمبادئ الحاكمة لسيادة الدول، والتي لا بديل عن احترامها شيء آخر تماماً!
وقد كانت أصوات مختلفة في إدارة ترمب تؤكد.. ولا تزال.. أن الهدف من العقوبات ليس هو إسقاط نظام خامنئي، ولا السعي إلى تغيير الذين يحكمون في إيران حالياً، بالقوة، ولكن الهدف هو تغيير سلوك إيراني مُخرب في المنطقة، لا يمكن أن يستمر، ولا أن يتواءم معه العالم.. وتشاء الصدفة البحتة، أن تبدأ الحملات الإيرانية على العبادي، ثم تتصاعد، هذه الأيام، ليرى العالم الذي يعنيه استقرار هذه المنطقة منه، أن هذا السلوك مع رئيس وزراء العراق، هو بالضبط المطلوب تغييره، وهو على وجه التحديد، المراد الإقلاع عنه إيرانياً، وبالكامل.. لأنه سلوك ليس قاصراً على بلاد الرافدين، ولكنه ممتد منها إلى دول غيرها في منطقتنا، يعاني أبناؤها من عواقب هذا السلوك أشد المعاناة.. واليمن أمام أعيننا خير مثال!
ولذلك.. فالرد على لسان المتحدث السابق باسم الحكومة العراقية، كانت له لغة أخرى مُفترضة، على خلاف اللغة التي خرج عليها لنا.. لغة لا يجري استدراجها إلى الكلام عن أن العراقيين لن يتحملوا أوزار نظام سابق، كان هو الذي بدأ حرب الثمانينات، كما قال المتحدث السابق.. ولا حتى إلى القول بأن على الإيرانيين أن يتجنبوا استعداء العراقيين، كما قال أيضاً.. وإنما تقول إن على إيران التي تذكرت الحرب فجأة، وتذكرت خسائرها دون مقدمات، أن تفهم أن العراق دولة ذات سيادة، وأن الشأن العراقي يخص العراقيين وحدهم، مهما طال العبث الإيراني هناك، وأن حظوظ العبادي في رئاسة الحكومة، تحددها عوامل تتفاعل في الداخل العراقي، وبدوافع وطنية مجردة، ولا تحددها رياح تهب من الحدود مع إيران!