إميل أمين
كاتب مصري
TT

دعم تركيا لقطر لا يفيد

يوماً تلو الآخر تثبت قطر أنه لا دالة لها على الفهم العميق للعبة التوازنات الدولية، وبالقدر نفسه ضحالة رؤيتها الاستشرافية المستقبلية، وبنوع خاص على صعيد السياسات والتوجهات العالمية.
تبقى قطر مدينة في الحال والاستقبال لأولئك الذين دعموا مواقفها العدائية تجاه أشقائها، لا محبة وكرامة في ذاتها، بل انتظاراً للحظة يحين فيها موعد تسديد أكلاف ذلك العون بشكل مادي ملموس ومحسوس.
لم تسارع قطر إلى تقديم حزمة مالية تصل إلى 15 مليار دولار لتركيا الأيام القليلة الماضية، إلا بعد أن تعرضت الدوحة لهجوم شديد الوقع من جانب أنقرة، وبعد أن شنّت وسائل الإعلام الموالية لإردوغان هجوماً حاداً على الدوحة التي وقفت صامتة وهي ترى الأزمة المالية تضرب بعنف الليرة التركية، من جراء الأزمة المتصاعدة مع الولايات المتحدة.
يخيل لقيادة الدوحة أن الأزمات السياسية الكبرى يمكن حلها عبر تقديم حفنة دولارات، في حين أن أزمة تركيا مع الأميركيين هي أعمق من ذلك بكثير، إنها فراق آيديولوجي بين تركيا المدنية التي عرفها الغرب قبل قرن من الزمان، وتركيا الحالمة بعودة عجلة الزمان إلى الوراء.
الدعم القطري لتركيا لا يفيد... هكذا تحدث مستشار الأمن القومي الأميركي «جون بولتون» خلال زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، ومؤكداً على أن ضخ الأموال القطرية لن يستطيع انتشال الاقتصاد التركي من أزمته التي تفاقمت مع انهيار الليرة.
بولتون حين يتحدث على هذا النحو فهو يقصد الاتفاق الذي وقع بين أنقرة والدوحة، والذي يهدف إلى تسهيل التجارة الثنائية بعملتي البلدين ودعم استقرارهما الماليين، ذاك الذي لن يقدر له أن يرد لليرة التركية نحو 40 في المائة من قيمتها التي فقدتها منذ بداية العام الحالي، وفي دولة وصلت ديونها الخارجية إلى 411 مليار دولار، وهو ما يضع عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد التركي.
لم تلتفت قطر إلى لعبة الأمم لا في القديم ولا الحديث، وفي حين تصر على عنادها وعلى الهرب إلى الأمام، ترى بأم عينيها كيف للدول الكبرى أن تضحي بأصدقاء لها كانوا يوماً يعدون حلفاء موثوقين، فكثيراً ما لعبت تركيا أدواراً متقدمة لدعم الناتو في مواجهة الاتحاد السوفياتي طوال زمن الحرب الباردة ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
على مذبح العلاقات الدولية هناك مصالح متبادلة وليست صداقات، وما تتعامى قطر عن رؤيته أن الولايات المتحدة تأتيها من حين إلى آخر نوبات من المد اليميني الذي يقيّم الأمور بمعايير هي مزيج من الديني والسياسي، ومن هنا يتبين لنا القصور القاتل في فهم الدوحة السياسات الأميركية، وبخاصة إدارة الرئيس ترمب.
عقلية الريع التي تحكم قادة قطر، بمعنى الاعتماد المطلق على المردودات المالية العالية للغاز والنفط القطريين، تجاوزها الزمن، فالجزرة لا تشفع ولا تنفع للقطريين عند الأميركيين، فما لدى واشنطن من قوة وسطوة مالية وعسكرية يجعلها ربما أقدر إمبراطورية في التاريخ الإنساني، وبما يتجاوز بمراحل ما عرفته الإمبراطورية الرومانية ذات يوم، وإن كان البعض يقول إن المصائر تتشابه بقوة بين روما العتيقة وواشنطن الحديثة، وهذه قصة أخرى.
أخفقت مساعي قطر كافة في شراء النخبة الأميركية بالأوراق الخضراء، سواء كانت تلك النخبة سياسية كأعضاء الكونغرس، أو إعلامية من حملة الأقلام وأصحاب البرامج المتلفزة، حتى يجد الصوت القطري له مهرباً ومسرباً إلى الرأي العام الأميركي، ومحاولة قلب الحقائق رأساً على عقب.
يقف الأميركيون اليوم بالمرصاد لمحاولات قطرية مستميتة لشراء الديمقراطية الأميركية، ونكاد يومياً نستمع لفضيحة من الوزن العالي للقطريين في هذا السياق؛ إذ لا يمكن في بلد يتمتع بشفافية كبيرة جداً وإن لم تكن مطلقة، في مدارة محاولات الاختراق للطبقة الحاكمة في الداخل الأميركي.
في توقيت مواكب لتصريحات بولتون كان نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي «تيموثي لندركينج» ينفي أن تكون قطر تلعب دور الوسيط بين تركيا والولايات المتحدة.
تصريحات رجل الخارجية الأميركية يؤكد صدقية ما ذهبنا إليه مرات كثيرة من أن البراغماتية الأميركية هي الحد والفيصل اللذان يوجهان بوصلتها؛ إذ أضاف قوله... نعم، الدوحة لعبت أدواراً وسيطة لصالحنا من قبل، لكن هذه المرة لا أرى ذلك.
العباءة التي ترتديها قطر أوسع من مقدراتها الحقيقية، ومرة أخرى نؤكد أن أوزان الدول على مقاييس النفوذ الاستراتيجي تقاس بمقاييس كثيرة المال آخرها، فالجغرافيا والديموغرافيا، ناهيك عن التاريخ والحضارة؛ ولهذا فإن إرسال قطر وزير خارجيتها لمقابلة الوزير بومبيو ظهر الثلاثاء الماضي لم تسفر إلا عن خزي الوجوه.
قبل بضعة أسابيع ناورت قطر الأميركيين بالحديث عن مشروعات لتوسيع وتطوير قاعدتي العديّد والسيلية على أراضيها، انطلاقاً من أن هذا العرض سيبهر الأميركيين، غير أن الردود التي تلقتها الدوحة أثبتت لها أنه تعيش أحلام يقظة، وأن أوراقها انكشفت لدى القائمين على شؤون العسكرية الأميركية، بل اعتبر النبلاء من جنرالات البنتاغون أن المشهد برمته لا يتجاوز شكلاً من أشكال الرشى السياسية المقنعة، لضمان صمت واشنطن على الدور المخرب القطري لجهة السلم والأمن الدوليين في المنطقة، ولعلاقاتها مع الجماعات الإرهابية وتمويلها للكثيرين منه.
كارثة القيادة القطرية التي ستقودها إلى التهلكة عدم قراءتها مجريات التاريخ بعين عقلانية، دولاراتها لن تنفع الأتراك، وما أبطنه بولتون في تصريحاته أظهره الكاتب الأميركي «تود وود»، في مقال له بصحيفة «الواشنطن بوست» الأميركية، معتبراً في حقيقة الأمر أن الخلاف مع تركيا يتجاوز أزمة اعتقال القس برانسون، إلى لحظة افتراق الطرق بين تركيا المدنية التي سمحت لها توجهاتها الأتاتوركية بأن تضحى الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي، وتركيا إردوغان المشغول بإعادة البلاد إلى القرن التاسع عشر؛ ما جعل تركيا في عيون الأميركيين والأوروبيين على حد سواء بلداً غير حليف ولا صديق، كما أشار الرئيس ترمب مؤخراً.
دعم تركيا لا يفيد، وآخرون أولهم إيران ينتظرون أثمان الحماية الأقرب للجباية... قطر دولة مرتهنة القرار السيادي... الهرب لا يفيد.