إميل أمين
كاتب مصري
TT

الشرق الأوسط وأوان الخريف العاصف

لم يكن الخريف أبدا عاصفا، بل هادئ معتدل وديع ينقلنا إلى مساحة مناخية عقلانية إن جاز التعبير ما بين قيظ الصيف وصقيع الشتاء، غير أن الراوي يحذرنا من أن خريف هذا العام شرق أوسطيا وربما عالميا أيضا سيكون عاصفا هائجا مائجا في عالم يعاني من أزمات هيكلية وسيولة جيواستراتيجية.
لتكن البداية شرق أوسطية، لا سيما أن ما ينتظر المنطقة فيها مزعج للغاية، ذلك أنه على حدود نوفمبر (تشرين الثاني) سوف تبدأ المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران وفي مقدمها وقف تصدير النفط الإيراني للعالم الخارجي، الأمر الذي يعني تصاعد احتمالات المواجهة المسلحة، وبخاصة إذا أقدمت إيران على تنفيذ تهديداتها بتعريض الممرات الملاحية إلى مخاطر.
الخريف العاصف يمكن لإيران أن تلعب فيه دورا بالغ الخطورة عبر فرق اغتيالاتها حول العالم، في أوروبا وأميركا الشمالية تحديدا، ومع هذا التوقع يتحير المرء، ومثار الحيرة هو كيف للاتحاد الأوروبي أن يقدم الأيام القليلة الماضية نحو 20 مليون دولار للإيرانيين لدعم القضايا البيئية، وهم على مرمى حجر من صواريخ إيران من جهة، وحرس طهران الثوري يخطط لقتل المعارضين الإيرانيين على الأراضي الأوروبية كما حدث أواخر يونيو (حزيران) الماضي في باريس.
تعزز المخاوف من الخريف القادم الأنباء التي تتحدث عن مدمرات بحرية أميركية تتحرك لجهة البحر الأبيض المتوسط، والأحاديث تدور حول ضربة جديدة متوقعة لسوريا، قبل أن تقدم على معركة إدلب التي يخشى الكثيرون من أن تؤدي إلى مذبحة غير مسبوقة، فيما المحصلة النهائية لمثل هذا الهجوم هي تعقيد الحل السلمي واستمرار أكبر مأساة إنسانية في الشرق الأوسط الحديث، خلفت من ورائها ما لا يقل عن نصف مليون قتيل ونزوح أكثر من عشرة ملايين سوري إلى خارج البلاد.
الخريف المثير لن يتوقف عند الجزء الشرقي الشمالي من العالم العربي والشرق الأوسط، بل حكما سينسحب على منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
خذ على سبيل المثال التغيرات التي تجري على صعيد التوازنات الاستراتيجية وموازين القوى الدولية المتبدلة، وفي طليعتها تراجع قدرة الولايات المتحدة بالنسبة لدورها كشرطي للمنطقة بعد أن كانت هي العمدة والشريف لعقود طوال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
قبل بضعة أسابيع كان المتحدث باسم الجيش الليبي العقيد المسماري يتناول شؤون وشجون بلاده، وفيما يشبه القارعة تحدث عن الفشل الجامع المانع للأميركيين في بلاده، عطفا على توصيفه الجيد للصراع الأوروبي عامة، والإيطالي الفرنسي خاصة على موارد بلاده، وعدم الاكتراث بمستقبل الشعب الليبي.
على أبواب الخريف العاصف لا تزال جماعات الإسلام السياسي تتآمر سرا وعلانية على أمن وأمان دول المنطقة، بل أبعد من هذا تبدو في الأفق عودة لجماعات الإرهاب الأسود لكي تضرب من جديد، ولم ينته المشهد عند الهزائم اللوجيستية لـ«داعش» في العراق وسوريا، إذ تفيد الأنباء المتواترة بأن «القاعدة» تعمل من جديد على إحياء وجودها كوريث لتنظيم الدولة، وبخاصة في شمال أفريقيا وغربها، وربما سنرى تنظيمات أكثر خطورة تجمع بين التطرف والتشدد الداعشي القاتل، وبين القدرة الحركية لـ«القاعدة» التي مكنتها من الحفاظ على هياكلها البنيوية طوال ثلاثة عقود تقريبا، ما يعني أن خطر الإرهاب قائم وقادم، وما موقعة العريش قبل أيام إلا مثال على ذلك، حتى وإن نجحت القوات المصرية في دحر المهاجمين والفتك بهم.
ركن ركين آخر يتصل بالسياق ذاته أي سيناريوهات العواصف المقلقة، ذاك المرتبط بقضية العرب الرئيسية، القضية الفلسطينية، إذ تشير التسريبات إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب سوف يعلن رسميا عن «صفقة القرن» التي كثر الحديث عنها أوائل الخريف القادم، وفي شكل مواز لخطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الأسابيع القليلة القادمة.
هل يمكن أن تنزل تلك الصفقة بردا وسلاما على الفلسطينيين وعموم العالم العربي؟
أغلب التوقع أن ذلك لن يحدث، لا سيما أن الحال يغني عن السؤال، فالإدارة الأميركية الحالية أوقفت مساعدات بقيمة مائتي مليون دولار للفلسطينيين عقابا لهم على ما تراه موقفا متشددا من جهتهم بالنسبة للقدس، أي رفضهم تهويدها أو اعتبارها عاصمة موحدة أبدية للإسرائيليين.
أما عن إسرائيل فحدث ولا حرج عن خطواتها المستفزة والعدائية، بدءا من الإسراع في بناء ألف وحدة سكنية استيطانية من حول زهرة المدائن، ناهيك عن التفكير الجدي في تخصيص أوقات للصلاة داخل الحرم القدسي لغير المسلمين، الأمر الذي يمكن أن يفتح الطريق أمام اندلاع نيران حرب دينية تطال المنطقة والعالم، وصولا إلى إعمال الفتنة بين الفصائل الفلسطينية، أما الطامة الكبرى فتتمثل في التجهيزات الدائرة لمواجهة عسكرية مع غزة.
خريف الشرق الأوسط العاصف لا يمكن فصله عن سياق الخريف الأميركي الملبد بالغيوم، حيث تكاد العواصف تقتلع ساكن البيت الأبيض، وإن كان البعض يرى أنه سيناريو مستبعد، لكن في حال ومآل رئيس يطلقون عليه «غير متوقع» تبقى كل السيناريوهات مفتوحة، وهنا يطفو على السطح احتمال مقلق آخر بدوره، يتمثل في هجوم إسرائيلي كاسح على إيران و«حزب الله» جنوب لبنان، وبدون انتظار لما ستسفر عنه التغيرات والتطورات الأميركية الداخلية، وانطلاقا من رؤية تقديرية مفادها «لن يحك جلدك إلا ظافرك».
على أنه من رحمة ربك أنه لا يزال هناك في هذه المنطقة ثلاث نقاط مضيئة تعد روافع عربية وشرق أوسطية متينة إلى درجة عدم القابلية للكسر تتمثل في المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، ومن خلال التنسيق المشترك والمتبادل، وتوحيد الجهود، والاستثمار معا في البشر قبل الحجر، يمكن ملاقاة الخريف العاصف القادم لا ريب في ذلك.