فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الحج والجماعات الراديكالية

لم تكن الشريعة بالنسبة للجماعات الأصولية إلا محتوى للمآرب السياسية. والهدف الأساسي أن تطوّع الشريعة من أجل تحقيق الدولة الحلم. وهذه ليست سنة الأصوليين حديثاً، وإنما منذ بدء حالات الانشقاق على الدولة أو المعاداة للإسلام التقليدي، والنفس الثوري يجد في النصوص ما يعزز من آماله وأحلامه، كذلك فعلت أدبيات الإسلام السياسي التي وجدت بليّها النصوص ما يشرّع الانشقاق، وفعلته تيارات ماركسية كما نعثر على تطبيقات حسين مروة في كتابه: «النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية» وقل مثل ذلك عن تيارات أخرى تعثر على مبتغاها في النصوص باعتبارها ورشة جاهزة يمكن لأي شخصٍ أن يطرق أداته ليصنع ما يناسب مشروعه وهدفه.
وجماعة الإخوان المسلمين كانت واضحة منذ البداية، المشروع النظري تأسس عبر تغليب الحاكمية على الشريعة، وجعل العقيدة الصحيحة مرتبطة بالمشروعية السياسية للحاكم، فمناط السلامة الدنيوية والأخروية كله سياسي محض.
من ذلك شغل الإخوان المسلمين في مواسم الحج، إذ يرون بالموسم فرصة لإقناع المسلمين بمشروعهم، وقد استطاعوا طوال السنين الماضية أن يجدوا لهم مقاعد تقلّ أو تكثر. وحسن البنا جاء إلى الحج عدة مرات، وذهب إلى المدينة المنورة، والتقى بالشباب واستطاع استمالتهم لمشروعه. يروي نائب وزير الشؤون الإسلامية توفيق السديري في كتابه «تشخيص الصحوة»: «لقد استغل (البنا) رحلات الحج بالبداية لتعزيز روابطه بأعيان مكة المكرمة، والمدينة المنورة وجدة، الذين مال أفراد منهم إلى أفكاره، وعزز من خلالهم صلته بمسؤولين رسميين في الدولة، وحسب تتبعي لبدايات الإخوان في السعودية، أزعم أن أول عمل تنظيمي لـ(الإخوان) نشأ في السعودية كان في المدينة المنورة». وبعد اللقاء الشهير بين الملك عبد العزيز وحسن البنا عام 1946، وبعد أن رفض الملك فتح فرعٍ لـ«الإخوان» بالسعودية، فإن البنا عندما رجع أشار إلى أن البلدان الإسلامية بما فيها السعودية باتت عبئاً على الإخوان المسلمين مما يتطلب مضاعفة الجهد لبعث الحياة فيها. ومن المعلوم أن البنا وبعد زيادة نشاطه السياسي شرطت عليه الحكومة السعودية، إن أراد الحج، أن يلتزم بالشروط ومما يروى عن البنا قوله لأحدهم: «ألا تعلم أن الحكومة السعودية لم تسمح لي بالحج هذا العام، إلا بعد أن تعهدت بعدم الخطابة والكلام في السياسة».
منذ ذلك الحين والإخوان المسلمون يهمهم موضوع الإرشاد في مواسم الحج، استطاعوا التغلغل على فتراتٍ من الزمن، وذلك تبعاً لتحولات السياسة، وتغير موازين القوى بالمنطقة، مما جعلهم ينفذون في فتراتٍ معينة ويخفت صوتهم في أزمنة أخرى. في موسم حج هذا العام لم يعد لـ«الإخوان» أي وجود على مستويات الفتيا، أو الوعظ والإرشاد، أو الخطابة والإمامة، وهذا التطوّر فجّر لديهم كوامن الغضب، مما جعلهم يرمون التهم بألسنة حداد، ومن ذلك ما تفوّه به كبير المرشدين لجماعة الإخوان يوسف القرضاوي حول الحج، وهي فتوى منطلقها الأساسي نجاح السعودية باستبعاد التيارات الإخوانية بشكلٍ كامل ربما لأول مرة في تاريخ الحج، وعدم نجاح الإخوان بالتستر والتغلغل وراء مؤسسات دينية كانت مهيأة من قبل للاختراق، ولكنها الآن لم تعد كذلك.
وفتوى القرضاوي حول عدم أهمية الحج تنطلق من أرضية آيديولوجية سياسية ضعيفة في الفقه، كما هو حال فقهاء الإخوان عادة إذ تغلب عليهم الرؤية العاطفية، ويغفلون عن التثقف والاستزادة المعرفية الفقهية لتعزيز التعليل والتسبيب الفقهي في أي فتوى يطرحونها. والقرضاوي يعلم أن موسم الحج أكبر منه ومن موقعه ومنصبه وجماهيريته، وهو ليس مفتياً للمجتمعات بل مرشد للمجاميع، وعليه فإنه يفتقر إلى الحيثية الاجتماعية عند المسلمين مما يجعل الفتوى صوتا بلا صدى، ولا يمكن أن تلقى رواجها إلا لدى بعض الفئات المعينة وجامعها الاتجاهات الإسلامويّة، أو «جماعات الإسلام السياسي». وآية ذلك أن الغضبة التي تلت الفتوى لم تقتصر على السعوديين، بل انتفض المسلمون في جميع أنحاء العالم مدافعين عن الركن الخامس من أركان الإسلام، الذي تجتمع على قدسيته، كل المذاهب الإسلامية بشتى اختلافاتها.
أمثال هذه الفتاوى تأتي انطلاقاً من احتكار مطلقٍ للحق، باعتبار الذات هي المعيار، ويندفع بعاطفته نحو الفتوى منتصراً لنفسه أو لمن يعزّ عليه، والفتيا مجال معقد له أسسه وضوابطه، ويعرف أدب الفتيا الطلاب الصغار بكليات الشريعة والدراسات الإسلامية، ولا يمكن أن تكون الفتيا بمثل هذه الصورة من الخفّة والتسرع، والمنطلقة من انتصار للذات والجماعة التي ينتمي إليها صاحبها. لكن ورغم كل السوء الذي تسببت به، فإنها كشفت عن المنهج الخطير المتبع من قبل ذلك المفتي، وأزاحت الستار عن المؤسسات التي ينتمي إليها أو يتزعمها ويرعاها. ولذا على الدول ممثلة بمؤسساتها الدينية الحفاظ على مجال الفتوى من دخول العامة وغير المؤهلين، ومما يروى عن أبي حنيفة قوله: «لا يجوز الحجْرُ إلا على ثلاثة: على المفتي الماجِن، وعلى المتطبب الجاهل، وعلى المكاري المفلِس».