زاهي حواس
عالم آثار مصري وخبير متخصص بها، له اكتشافات أثرية كثيرة. شغل منصب وزير دولة لشؤون الآثار. متحصل على دبلوم في علم المصريات من جامعة القاهرة. نال درجة الماجستير في علم المصريات والآثار السورية الفلسطينية عام 1983، والدكتوراه في علم المصريات عام 1987. يكتب عموداً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» حول الآثار في المنطقة.
TT

عبقرية المهندس المصري القديم

يجب علينا أن ندرس ما قام به المصريون القدماء من إنجازات عظيمة في كل مجالات الحضارة؛ ولا يزال علماء اليوم يحاولون فك طلاسم العبقرية المصرية القديمة. إن الإبداع الذي حدث في عصر الفراعنة يرجع إلى نقطة هامة جداً وهي إيمان المصريين القدماء بالحياة في العالم الآخر. إن البحث عن الآخرة هو الذي دفع الفراعنة لبناء أهرامات ما زال العالم يتحدث عن أسرار بنائها إلى الآن. كذلك برع المصريون القدماء في الفلك واستطاعوا أن يعرفوا التقويم الشمسي، ورصد النجوم والكواكب وتدوين الظواهر الطبيعية؛ ولذلك استطاعوا أن يعرفوا عدد شهور السنة وعدد الأيام.
وكان هناك مدينة «أون» القديمة تخرج في جامعاتها علماء في الطب والهندسة والفلك؛ وخرجت منها أول نظرية عن خلق الكون ونظريات الفنون والعمارة والأدب. وقد وجدنا في العصر الحالي أن الفيضانات التي تأتي لوادي الملوك تأتي بشكل قوي وخطير وتدخل المياه داخل المقابر وتعرضها للتدمير الكامل.
وكانت المفاجأة أننا اكتشفنا أن الفراعنة درسوا مسار الفيضانات في الوادي الشرقي والغربي، وكانوا يبنون المقابر الملكية بعيداً عن مخرات السيول، وبذلك تكون محمية من مخاطر الفيضانات. وكان الفراعنة أيضاً لديهم معرفة ممتازة بعلم الجيولوجيا ودراسة طبيعة صخر الجبل، والشروخ التي توجد به.
فكان المصري القديم يحفر مقابره عكس الشروخ، فإذا كانت الشروخ عرضية فيتم حفر المقبرة، أما إذا كانت طولية فلا يتم حفر المقبرة في هذا المكان. وكشفنا أيضاً أن المعماري المصري القديم الذي كان يضع مخططات المقبرة ومسؤولاً عن متابعة أعمال الحفر، وفي حال الكشف عن عيوب موجودة في الصخر كان يتم وقف العمل واختيار مكان آخر. ولذلك من المهم جداً لأي أثري قبل أن يعمل في أي موقع أثري أن يقوم بدراسة الصخر ومسار السيول لكي يحدد المكان الذي يمكن أن تختفي فيه المقابر، ولدينا دليل على ذلك من مكان مقبرة الملكة «حتشبسوت» - أول مقبرة تبنى بوادي الملوك - ولم يتم بناؤها داخل الوادي نفسه بل بنيت في الوادي الخلفي أو في الفرع الصغير من الوادي، والهدف الأول هو إخفاء المقبرة عن أعين اللصوص. وهناك معلومة أخرى وهي أن المقابر كانت تحفر في مستوى أعلى من مستوى الأرض.
وقد عثر في وادي الملوك الشرقي على الطريقة التي استخدمها الفراعنة للحفاظ على الوادي من السيول، حيث حفر مجرى في أعلى الجبل تنزل عليه السيول، وبعد ذلك تم عمل قنوات لكي تصرف فيها مياه الفيضانات إلى أرضية الوادي بعيداً عن المقابر. وكانوا يقيمون السدود الصغيرة داخل هذه القنوات حتى تهدأ من سرعة جريانها. إن الحفر في وادي الملوك يجعلنا نفكر دائماً في الطريقة التي كان يفكر بها الفراعنة لكي نعرف المكان الذي وضعت فيه المقبرة التي يريد أن يحيى فيها في الحياة الأخرى أو في «جنة الأيارو» وهو اسم الجنة عند المصريين القدماء؛ ولذلك كان يعد المقبرة وداخلها الرسومات التي تساعده على أن يجتاز الصعاب حتى يصل إلى مقابلة «أوزوريس» في العالم الآخر، وبالإضافة إلى المقتنيات الموجودة داخل المقبرة والتي سوف يستعملها في العالم الآخر... الإيمان بالعالم الآخر هو الذي بنى مصر.