إميل أمين
كاتب مصري
TT

«فوستوك 2018»... قعقعة الدب

قبل فترة أعلن حلف «الناتو» عن قيامه بأكبر تدريبات له في أوروبا منذ عام 2002، ستجري في النرويج في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) المقبلين، بمشاركه أربعين ألف جندي ومائة وخمسين طائرة وسبعين سفينة حربية.
الإعلان تزامن مع قيام الولايات المتحدة بإعادة تشكيل الأسطول الثاني الخاص بها، ذلك الذي تم تفكيكه بعد انتهاء الحرب الباردة، الذي توجد سفنه غالباً في شمال المحيط الأطلسي.
تحركات «الناتو»، الذي بدأت قواته تصل إلى النرويج بالفعل، ليست أكثر من مظاهرة لاستعراض قوة الحلف ومحاولة ردع روسيا، بحسب ما أعلنه القائد العام لقوات «الناتو» في أوروبا... هل كان للدب الروسي أن يقف مكتوف الأيدي؟
لم يطل الانتظار؛ فها هي روسيا والصين ومنغوليا على بعد أسبوعين من المناورة «فوستوك 2018» («فوستوك» هي محطة أبحاث روسية في القارة القطبية الجنوبية، تم تأسيسها عام 1957) الأكبر والأخطر ولا شك منذ آخر مناورة للاتحاد السوفياتي جرت عام 1981، واتخذت اسم «زاباد - 81».
مثير شأن الدب الروسي، إذ يختفي إلى حد أن يظن المرء أنه مات، لكنه ينهض وكأنه الفينق من جديد، وفي مواجهة عدة وعتاد «الناتو»، يرصد الروسي وحدات تماثل قدرات معركة كبرى في زمن الحرب العالمية الثانية.
خذ إليك ما يلي: 36 ألف دبابة وحاملات جنود مدرعة، فضلاً عن مركبات مشاه مدرعة، عطفاً على جميع الوحدات الروسية المحمولة جوّاً، وأسطولان بحريان من القوات البحرية الروسية.
رسالة «فوستوك 2018» تحمل معاني مقلقة لـ«الناتو» لأكثر من سبب؛ أولها القوة التقليدية الروسية القادرة على إلحاق الأذى الكبير بـ«الناتو» على الأراضي الأوروبية، وفي هذا الصدد تحدث خبراء عسكريون أوروبيون عن مخاوفهم من قدرة روسيا على أن تحتل دولاً أوروبية في ساعات قلائل، ودع عنك إشكالية توازن الردع النووي، فما أظهره بوتين في حديثه للأمة الروسية من قدرات صاروخية نووية، أصاب الأوروبيين بالرعب، والأميركيين بالهلع، لا سيما الصاروخ الشيطاني «سارامات» ذو العشرة رؤوس نووية.
يقول الروس إن «فوستوك 2018» عمل مبرَّر ومشروع، إذا أخذنا بعين الاعتبار التوجهات العدوانية وغير الودية تجاه روسيا، ويبدو أن الرؤى الاستراتيجية الآسيوية ترى حتمية شراكة ما، وإن كانت لا تزال في خطواتها الأولى، وعمادها موسكو وبكين، ما يعني تغيير التوازنات العسكرية في آسيا.
في بيان وزارة الدفاع الصينية إشارات تزيد من قلق العم سام وجنرالات الدفاع، عطفاً على رجالات الكونغرس، وجميعهم يرون في «التنين» الصيني العدو الأكثر خطورة من «الدب» الروسي.
من هذه الإشارات القول إن الشراكة في «فوستوك 2018» أمر يعمق التعاون العسكري، ويعزز قدرات روسيا والصين من أجل مواجهة مشتركة لمختلف التهديدات الأمنية، وإن كانت الحكمة الكونفوشيوسية الصينية التقليدية تطل من بين عيون كلمات البيان، لا سيما حين يقول إن مشاركة الصين لا تستهدف أي طرف ثالث.
لم تنزل مناورات الروس على حلف «الناتو» برداً وسلاماً، وهم يشاهدون تدريبات تكرر في بعض آلياتها ما فعله الاتحاد السوفياتي عام 1981 من استعدادات تصل إلى حد الهجمات العسكرية على حلف «الناتو»، ولهذا يصرح المتحدث باسم الأطلسي بأن المناورات الجديدة تؤكد «تركيز روسيا على ممارسة صراع لبعض الوقت، تتلخص في وجود روسيا أكثر حزماً مع زيادة ميزانيتها الدفاعية بشكل كبير ووجودها العسكري بشكل أكبر».
لكن ما فات رجل «الناتو» الإشارة إليه هو أن الدب الروسي الذي يعتليه بوتين في الحال، أدرك جيداً فخ سباق التسلح وتكاليفه التي كبدت السوفيات خسائر فادحة، ولهذا يكاد يمضي في درب مغاير أكثر إيلاماً للأميركيين مثل الأسلحة «الفرط صوتية»، والباليستية التي تقلب موازين المعارك إن جرت، والوحدات البحرية النووية من غير بشر، وغيرها مما لا نعلم، بمعنى ما قل ثمنه وعظمت منفعته، وفي الخلفية البشرية هناك جيش قوامه مليون فرد في القوات العامة، واحتياطي مضاعف جاهز للقارعة.
لسان الكرملين مدهون بالعسل، ويد الكرملين الطولى حاضرة في «فوستوك 2018»، وكأن الدب الروسي يضع «الناتو» أمام خيارين، وهذا ما أشار إليه بعض كبار مسؤوليهم مثل فلاديمير باريين، الذي أوضح أن موسكو تأخذ في عين الاعتبار بلورة ردود ضرورية وحاسمة دبلوماسية وعسكرية في وقت مناسب.
يشير بوتين في كثير من كلماته للأمة الروسية ولخارجها: «خياراتنا كما كانت، وهي طرح الحلول التفاوضية بصورة مدنية راقية لجميع الخلافات من أجل ضمان السلام والاستقرار في مناطق الصراعات عبر تطوير التعاون الثنائي».
لكن الحديث الدبلوماسي اللين لا يعني أن الرجل ليست لديه خيارات فاعلة وناجزة، حال السعي الأميركي للاختصام من نفوذه في أماكن مثل أوكرانيا أو سوريا.
تقول «نيويورك تايمز» الأيام الماضية إن واشنطن وضعت موسكو في الصورة بشأن الضربة المقبلة لسوريا، وتفسير الروس الأولي هو أن ترمب في مأزق، ولهذا فإن طريق الخروج الأميركي التقليدي النصر في حرب صغيرة.
غير أن الروس لديهم بدائل لملاقاة الأميركيين، ومن دون أن يقود الرد إلى مواجهة مباشرة تشمل حرباً عالمية، وفي مقدمة تلك السيناريوهات تحذير الحليف السوري، أو مساعدته في صد الضربة المقبلة عبر صواريخ أرض جو، أو «300S» وربما «400S» التي تغطي القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم، كما أن لدى الدب الروسي سفناً حربية كثيرة في البحر المتوسط، يمكن استدعاؤها والاستعانة بما عليها من أسلحة قوية للدفاع.
وعند نقطة شقاقية وفراقية جوهرية مع الأميركيين، لا سيما إذا مارسوا ضغوطاً في أوكرانيا، يمكن للروس اتخاذ المزيد من التدابير القوية مثل تزويد سوريا بنظم الصواريخ المضادة للطائرات من طراز «S400 Triumph» بعيدة المدى القادرة على إبطال مفاعيل «F35» الأميركية الأسطورية وما دونها.
من يقرأ الروس قراءة معمقة أخيراً يدرك أن مسألة الـ90 يوماً التي تركتها واشنطن للروس لتغيير مساراتهم غالباً ستكون «تسعينة» ملتهبة، فضمن سياق «الخريف العاصف» توعَّد لافروف على سبيل المثال بأن بلاده لن تترك ما تفعله واشنطن من دون رد مناسب، والمعاملة بالمثل.
فيما نائبه ريابكوف يحذِّر من مغبة التمادي في التعامل مع موسكو من موقع القوة.
الخلاصة: أرى أن روسيا سوف تصمد أمام جميع كل هذه المحاولات مهما كان عدد مشاريع القوانين المتدفقة بسرعة خيالية عليها لثنيها وإضعافها ذلك هو ديدن الروس.