إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عن البصرة

لم يحدث أن انطبق مَثَلٌ على واقع حال مثل انطباق «بعد خراب البصرة» على واقع حال المدينة. ولا حاجة للاسترسال في تقليب صفحات التاريخ والحديث عن تلك المنارة المعرفية التي احتضنت الخليل بن أحمد الفراهيدي وابن الهيثم والحسن البصري والعشرات غيرهم، إذ يكفي أن نتذكر أنها كانت الواحة التي يقضي فيها العراقيون والعراقيات شهر عسلهم. كم من عروس تذوقت طعم القبلة الأولى في إحدى غرف فندق «شط العرب»؟
ذات يوم، نزلت في ذلك الفندق الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي. وهي لو قامت من رقدتها وعادت إليه اليوم لكتبت أكثر روايات الجريمة رعباً. أي جريمة أفدح من أن تفتح حنفية الماء فتسيل منها ديدان وسموم وأملاح تتكلس على معدن الصنبور؟ واللطيف أنهم يسمونها «مياه الشفة». كيف تكون المياه الثقيلة، إذن؟ البصرة كانت عطشى وظلَّت عطشى في العهد الديمقراطي الجديد. وهي التي يتعانق في قرنتها دجلة والفرات. وحين يصرخ أهالي المدينة من آلاف حالات التسمم بسبب تلوث المياه، تقف وزيرة الصحة لتقول إنها مبالغات والحالات لا تزيد على ألف وخمسمائة. والله نكتة. وفي البلاد السعيدة تستقيل حكومات بسبب ثلث هذا الرقم.
والنكات كثيرة، ومنها تصريح محافظ البصرة بأن مظاهرات الاحتجاج في المدينة ليست عفوية بل يجري تحريكها من جنوب فرنسا. وأنت الصادق. يقطع الفرنسيون إجازاتهم على شواطئ نيس وتولون ويهبّون لزرع الفتنة في البصرة، كأن لهم ثارات مع شاعرها الفرزدق لأنه لم يقصدهم حين صاح: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته / والبيت يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ». أو كأن بنات مرسيليا يسعين للانتقام من صبايا البصرة اللاتي خصّهن بشار بن برد ببيته الشهير: «إن العيون التي في طرفها حَوَرُ / قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا».
لا أحد يعرف من الصادق ومن المحتال في الأخبار الآتية من هناك. نقرأ عن تبرّع سخّي من المغني كاظم الساهر لشراء محطة لتنقية المياه في المدينة. ثم يأتي كلام عن تراجع الساهر لأن هناك من يريد الاستحواذ على مبلغ التبرع وشفط المقسوم. ما قيمة مليون أو مليونين من الورق الأخضر الذي تقبع مليارات منه في بطون حيتان الفساد، تلك الأسماك المخيفة التي يسميها البصاروة «الكوسج»؟ إنها البصرة، يا ناس، التي قال عنها هارون الرشيد: كل ذهب الأرض وفضّتها لا يبلغ ثمن نخلة فيها. المدينة التي علّمونا ونحن صغار في المدارس أنها ثغر العراق البسّام. هل رأيتم ثغراً يبكي؟
غابة النخيل الذي إن هززت جذعاً منه يسّاقط الرطب على عشرة مبدعين. بصرة السياب وفيصل السامر وفيكتوريا نعمان ومحمود البريكان وسعدي يوسف ومحمود عبد الوهاب والصكار وسيتا هاغوبيان وفؤاد سالم وطالب غالي وفيصل لعيبي ومحمد خضيّر وكل أهل الطيبة. وأمس، في «فيسبوك»، نشر خضيّر صورة مركّبة تلخص مأساة البصرة، أنجزها فنان الفوتوغراف أحمد محمود. وفيها تخيّل المصوّر نفسه طافياً مع تمثال السياب فوق مياه شط العرب، وقد انقلب التمثال على ظهره. ويكتب صاحب «بصرياثا»: «لا أظنّ تركيباً أقدر من هذا التصوّر السوريالي، على التعبير عن قضية البصرة الواقعية والصريحة؛ فالسموم الفطرية التي تتغطى بجلودٍ اكتسبتها من أزمنة التمويه والإخفاء والتطفل والخداع السياسي، تغطي اليوم الوجه البصري بلون أخضر وتتغلب على سمرته الطبيعية؛ تشاطره غذاءه وسريره وسطور كتابته؛ تصبح جزءاً من كيانه اليومي والتاريخي. هذه الصورة هي قُبلة النهر السامة على جبهة الوجه السافر للخديعة والجشع والذل».