يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

إرهاب الغنيمة في ليبيا وصمت المجتمع الدولي

كل شيء في ليبيا يبعث على الحيرة والذهول والشك بدءاً من صمت المجتمع الدولي إلى لا اكتراث الفاعلين في المجتمعات الإسلامية من المنظمات والتيارات وصولاً إلى الحالة الليبية ذاتها التي كان يعتقد أن بعد سقوط نظام القذافي سيهرع الشعب إلى صيغة توافقية بما أنه من الشعوب القليلة التي تحظى بعدد سكان قليل (مساحة ليبيا نحو مليون كيلومتر و700 ألف كيلومتر مربع ويقطنها نحو 5.8 مليون نسمة، منهم 1.5 مليون من الوافدين إليها بغرض العمل)؛ وإمكانيات اقتصادية واعدة وقرب جغرافي من أوروبا، إضافة إلى عدم وجود صيغ إثنية وطائفية يمكن لها أن تلعب دوراً في إيقاظ فتيل الأزمات، لكن ما حدث هو أننا أمام أكبر ظاهرة انشقاق ما بعد الربيع العربي وانفجار للأوضاع كلما هدأت ليس بفعل الخلاف السياسي على كعكة الدولة وإنما اقتسام للغنيمة بقوة السلاح من ميليشيات ومجموعات مسلحة عسكرية جهوية وصغيرة تحاول تفجير الوضع كلما اقترب من الحل أو شرع الليبيون في العبور بأزمتهم إلى استقرار الدولة. أيضاً رغم أنها لم تكن تحظى بحضور كبير على مستوى العلاقات الدولية أو التدخلات في عهد القذافي نجدها الآن من أكثر الدول التي تستثمر فيها الكيانات الموازية خارجياً من التيارات الإسلاموية والتنظيمات المتطرفة، حيث تشير التقارير إلى حضور غير مسبوق لتنظيم داعش داخل ليبيا التي ينتمي أغلب مقاتليها ومسلحيها تاريخياً إلى تنظيم «القاعدة» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة»، فضلاً عن استثمار أبواق الخراب منذ اللحظة الأولى في الشأن الليبي بدءاً من انحياز قناة «الجزيرة» - الدولة الإعلامية لتثوير مناطق التوتر منذ رهانها على لحظة الربيع العربي وتحالفها مع الإسلام السياسي واستثمارها لخطاب الجماعات المسلحة لصالح أجندة سياسية، فكل شيء في ليبيا رغم تجانس الداخل وتشابهه قدره أنه تأسس من الخارج على طريقة الغنيمة (من المفارقة أول ظهور لجماعة الإخوان 1949 كان على يد قيادي إخواني مصري هو إبراهيم مصطفى بدعم من الملك إدريس).
في ليبيا اليوم كمفارقة مضافة أيضاً إلى المفارقات الأخرى، هناك أكبر عملية تصدير للمقاتلين والإرهابيين إلى دول الجوار وشمال أفريقيا بعد أن تحول الداخل الليبي إلى معسكرات تجنيد واستقطاب، وبحسب تقرير هارلون زيلين من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ومؤسس الموقع الشهير «جهادولوجي» http:--jihadology.net، فقد «أصبح تدفق المقاتلين الأجانب إلى ليبيا رابع أكبر حشد (للمقاتلين) في التاريخ الجهادي، بعد الحرب في سوريا، والجهاد الأفغاني في الثمانينات، وحرب العراق عام 2003 فقط. بالإضافة إلى ذلك، إنها المرة الأولى التي أصبح فيها أولئك المتشددون في شرق أفريقيا وغربها ضالعين بعمق مع الجهاديين في الخارج بدلاً من تركيزهم على التمرد الداخلي أو الإرهاب».
الإرهاب في ليبيا ليس نزعة للسيطرة على الشرعية وقلبها كما هي الحال في بلدان ومواقع أخرى، بقدر أنها صراع على الغنيمة مع القوى السياسية في الدولة ومطالبة للتحول إلى جزء من بنيتها كما نشهده في مطالبات عدد كبير من الفصائل والأجنحة والميليشيات المسلحة التي تطالب بأن تكون جزءاً من وزارة الدفاع وهو ما يعني أنها تدرك قدرتها على لي ذراع السياسي الذي لا يملك مواجهة هذا الطوفان من المقاتلين والأسلحة وجيوب العسكرة منفرداً في ظل هذا الصمت الدولي.
تترشح ليبيا لأسباب كثيرة لأن تكون بؤرة الهجرة الكبرى للكوادر الإرهابية لعدة أسباب تتصل بطبيعة موقعها وتاريخ مقاتليها في «المسيرة الجهادية» منذ أفغانستان والتجانس بين مكونات الشعب الليبي على مستوى حالة التدين وغياب الطائفية، ومن ثم إمكانية استغلال النزعات المناطقية، إضافة إلى وجود ثلاث ولايات معلنة للتنظيم في الأراضي الليبية؛ برقة وطرابلس وفزان والأراضي المفتوحة في الصحراء الليبية، وحتى بعد خسارة التنظيم من استرجاع مدينة سرت والسيطرة على الموارد التي كانت بيد التنظيم عاد إلى أسلوبه القديم المحبب، وهو حرب العصابات واتخاذ ليبيا موقعاً ملائماً للتجنيد وشن هجمات على أوروبا واستقبال المقاتلين القادمين منها.
ليبيا اليوم بحاجة إلى مبادرة إسلامية كبرى ترعاها وتقودها دول الاعتدال ولو من خلال الجامعة العربية أو منظمة العالم الإسلامي لتنبيه القوى الدولية والمنظمات العالمية على خطورة الوضع هناك وتأثيره على تضخم الإرهاب المنظم في العالم ودون هذه المبادرة والالتفاتة إلى الحالة الليبية ربما نستيقظ خلال فترة محدودة على واقع مختلف تماماً عن الذي شهدناه في كل مناطق التوتر الحالية التي على الأقل كان يقف بإزاء التيارات المسلحة قوى نظامية تبقت من الجيش النظامي أو مقدرات الدولة التي لم تسحق تماماً كما في العراق وسوريا أو بفعل التدخل العسكري الأجنبي كما هي الحال في أفغانستان.
ما يحدث في ليبيا الآن لم يعرفه بلد عربي من قبل، ليس لحساب أعداد الضحايا وحجم الفوضى، بل لحالة السيولة السياسية، حتى بات من الصعب التمييز من ضد من! حظر جوي وحالة طوارئ وميليشيات مناطقية موزعة على مدن حساسة، أن يصبح الإرهاب سلاحاً سياسياً لتغيير الواقع، فهذا امتياز جديد على طريقة الخوارج القدماء في الاحتساب على الأداء السياسي، وهو ما يعني أن سقوط «المستبد» قد يخلف الآلاف من المستبدين الذين لم يستطيعوا مقارعته، وهو ما يعني بلغة أخرى إعادة قراءة الحالة العربية خارج مثاليات وثنائيات النظام - المعارضة، الشعب - الحكومة... إلخ، وأعتقد، لا على سبيل التشاؤم، أن الخروج من ثقافة «الدم» المتأصلة في الحالة العربية، التي سيعززها بقوة صعود موجات التطرف، بحاجة الآن إلى عقود من العمل الدؤوب.
من المخجل جداً رغم كل هذا الدمار الليبي أن يكون الخبر الذي يهم الليبيين وغيرهم في وسائل الإعلام الغربية وغيرها، هل أغلقت السفارة الإيطالية أم لم تغلق بعد؟!