خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

كرم أم غرام... أم ماذا؟

كنت وما زلت هائماً بالمناظر الطبيعية في فرنسا. فهي تذكرني باللوحات الفنية لكبار الرسامين الفرنسيين. جرني ذلك إلى كثرة السفر في شتى الاتجاهات من فرنسا. بيد أن واحدة من هذه الأسفار على امتداد الطرق السريعة بين باريس والريفييرا حيرتني في أمرها.
الوقوع في الحب عملية تستوقف النظر، والحب من أول نظرة يستدعي المزيد من النظر، بل وتجديد النظارات لمن ضعف نظره. توقفت عند أحد المقاهي أو المطاعم للاستراحة بعد قطع مسافة طويلة من الطريق المديد بسيارتي. دخلت المقهى وطلبت من النادلة الحسناء أن تسعفني بفنجان قهوة. فاقتادتني بكل لطف ورقة إلى إحدى الطاولات الشاغرة. تكلمت معي بالفرنسية التي لم أتقن معرفتها. ولكنها طلبت مني برفق أن أجلس ثم ذهبت وجاءتني بفنجان القهوة مع قدح صغير من الحليب وصحن من البسكويت بشتى الأنواع وصحن آخر من الحلويات.
قلت لها بفرنسيتي المكسرة: لم أطلب كل هذا ولا حاجة لي به. ولكنها تفتقت عن ابتسامة حلوة وأشارت علي بأن أشرب ما أمامي وآكل ما في الصحون ولا أناقش. عجب، عجب! قلت لنفسي: هكذا تأمرني! هذا غرام من دون كلام. فتحت شنطتي وسألتها عن الفاتورة، فأشارت علي بأنامل رقيقة بأن أغلق شنطتي ولا أدفع. لا فاتورة هناك للدفع عن كل ما شربت وأكلت! حقاً هذا غرام من دون كلام. ألقت علي نظرة تأنيب وملامة. أخذت من يدي جزدان الفلوس ووضعته في جيبي.
وبينما كنت أعد نفسي للخروج، أوقفتني عند الباب وأشارت علي بإصبع السبابة بأن أتبعها. أتبعها إلى أين؟ سألت نفسي. أشارت علي بأن أتبعها ولا أناقش! يعني بهذه السرعة، يقعون في الحب ويعقدون الخطبة في فرنسا! يا ست، أنا إنسان متزوج ومخلص لزوجتي! ولكنني تبعتها ككل الأزواج المخلصين وغير المخلصين، فإذا بها تقتادني إلى ممشى ضيق أفضى بنا، أنا وهي العاشقة الولهانة بما أوصلنا إلى طرف من غابة مجاورة. وهناك لاحظت عدداً من الرجال يقفون انتظاراً لها. ازداد الموقف تعقيداً عليّ.
ضمتني إليهم وإذا بها تباشر بإعطائنا تعليمات لتمارين رياضية ثم أمرتنا بالهرولة حول المنعطف. توقفت وتوقفنا معها ثم سلمتنا قصاصات من الأوراق باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وبها زال الغموض واستفقت من الحلم.
لاحظت السلطات الفرنسية كثرة حوادث السيارات في هذا القطاع من الطريق السريع والمديد من باريس إلى مرسيليا. كثيراً ما ينتاب السائق الملل والميل للنعاس. يستسلم بعضهم للنوم والسيارة تجري بسرعة مائة كيلومتر أو أكثر في الساعة. حاولت السلطات تفادي وقوع الحوادث بإغراء السائق على التوقف في مثل ذلك المقهى لشرب القهوة وتناول بعض المتاع ثم تقتادهم الموظفة الحسناء الموكولة بالمقهى لجرهم إلى القيام ببعض التمارين الرياضية التي تبعد النوم عن أعينهم وتغرس الإفاقة فيها. وحسنها وغنجها وتنورتها كفيل بذلك! وكله على حساب الحكومة.
عمل مشكور ولكنه بدد الحلم الأرجواني من تفكيري وأوهامي.