د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المناظرة القديمة الجديدة

القضية المطروحة هي: إلى أين يسير النظام العالمي بحالته الراهنة، أو بما جرى عليه من تطورات خلال العقد الحالي من القرن الحادي والعشرين؟ المناظرة التي حكمت الإجابة عن هذا السؤال كانت أطروحتين: أطروحة صراع الحضارات التي جاء بها عام 1991 أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد صمويل هنتنغتون، وحاول فيها البحث عن شكل الصراع في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، والاشتراكية والرأسمالية، والتي وإن انتهت بانتصار الثانية على الأولى فإن النظام العالمي لا بد أن يحكمه جدلياً صراع ما، وكان ذلك هو الصراع بين سبع حضارات عالمية عددها آنذاك تقريباً في حدود الديانات والمذاهب الأساسية بين سكان الدنيا. فالأمر لا يتعلق فقط بالديانة والحضارة الإسلامية، وإنما بالديانة الهندوسية وحضارتها التي جاءت بحزب «BJP» إلى السلطة في الهند، والديانة البوذية وحضارتها التي أظهرت أشكالاً من التعصب والعنف في سيريلانكا وميانمار.
الأطروحة الثانية جاءت بعد ذلك بقليل من قبل فرانسيس فوكاياما وحالياً هو أستاذ في جامعة استانفورد، وقامت على ما سماه «نهاية التاريخ» ليس كأحداث وإنما جدل بين أفكار كبري بعد أن استقر الأمر للفكرة الليبرالية الديمقراطية في العالم كمرجعية شاملة للمجتمع الدولي في عملية صارت في ما بعد تحت اسم «العولمة».
في عام 2002 نشرتُ كتاباً في الهيئة العامة للكتاب المصرية بعنوان «العولمة» أو «صراع الحضارات» حاولتُ فيها توضيح الفارق بين هنتنغتون وفوكاياما بعد أن ساد في الفكر العربي الشعبي ما يجعلهما أمراً واحداً كنتاج الحضارة الغربية وعداوتها لكل ما هو آخر.
وللحق فإن الأطروحتين لم تكونا على طلاق بيّن في ما بينهما، فلا هنتنغتون أنكر الظواهر التي كانت تجري أمامه من ظهور ما سماه «الموجة الثالثة» للديمقراطية (الموجة الأولى جاءت بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية وتحرير أوروبا) والتي بمقتضاها ارتفع عدد الدول الديمقراطية في العالم من 35 دولة إلى 115 دولة خلال فترة قصيرة بدأت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي حتى نهاية القرن العشرين. ولا أنكر أيضاً التأثير الخاص بالتكنولوجيا العالمية في تطوير السوق الدولية بسرعة الاتصال والتواصل وانتقال السلع والخدمات، وظهور ما سماه «إنسان دافوس» نسبةً إلى المؤتمر السنوي للمفكرين وقادة الرأي في مدينة دافوس السويسرية للتداول حول مشكلات الكون ومحاولة حل معضلاته الكبرى. هو ذلك «الكوزموبوليتاني» الذي يعتبر العالم وطنه مهما تعددت فيه الثقافات، ولا يجد غضاضة في العبور والانتقال من قارة إلى أخرى ومن وطن إلى آخر. ولكن على الجانب المقابل فإن هنتنغتون فعّل جانب «الثقافة» و«الحضارة» عندما لم يجعلهما أساس الصراع والجدل القادم فقط، وإنما جعل الدين هو العمود الفقري لكليهما، بل وجعل ما سماه الأخلاقيات «البروتستانتينية» في العمل أساساً للحضارة الغربية المتقدمة التي أغنتها فلسفة جون لوك التي تعلي من شأن الفرد ودوره كمواطن وكمنتج ومستهلك في السوق.
فوكاياما هو الآخر على ناحيته لم ينكر تماماً تأثير «الحضارة» ولا الدين، ففي واحد من أهم كتبه «الثقة Trust» سجّل البعد الثقافي الذي يربط المجتمعات في داخلها، ويجعلها قادرة على تحقيق الأمن وتبادل المنافع أو ما سماه في ما بعد في كتاب آخر «الهوية» التي تلحم المجتمعات بجماعاتها المختلفة. ولكنّ فوكاياما في ذات الوقت كان يرى هذه الظواهر، من الحضارة إلى الثقافة إلى الدين إلى الهوية، على أنها تعيش حالة ديناميكية فيها من الصراع الداخلي ما لا يقل عن الصراع الخارجي، وأن كثيراً منها مركّبة فيه العوامل الاقتصادية والاجتماعية والبيئة والتكنولوجيا، وكلها تتغير حسب معدلات النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية والسياسية. وفي محاضرة له في رثاء هنتنغتون فإنه ركز على «التغيير» الذي جعل الديانة الكاثوليكية تقبل بالديمقراطية فانتفى الفارق السياسي بينها وبين البروتستانتينية، في الوقت الذي اشتد فيه الصراع في الصومال وأفغانستان رغم الدين الواحد والمذهب الواحد، وكذلك لم تمنع «الأرثوذكسية» المسيحية المشتركة، الصراع بين روسيا وجورجيا وأوكرانيا. ومع ذلك فإن فوكاياما في مقال نشره مؤخراً في دورية «المصلحة الأميركية American Interest» بعنوان «إرث هنتنغتون أو Huntington›s Legacy» اعترف فيها بأنه «يبدو هنتنغتون في هذه اللحظة فائزاً» لأن العالم بدأ يمر في فترة انكماش ديمقراطي تراجعت فيه الديمقراطية كماً ونوعاً، وبات العالم يسير في اتجاه عكسي استقوت فيه القوى العظمى السلطوية مثل روسيا والصين حتى انتقلت من الدفاع إلى الهجوم. وتساءل فوكاياما في مقاله: هل يمكن القول «إن الانكماش الديمقراطي سوف يتحول إلى كساد ديمقراطي كامل يستمر لفترة طويلة، أو أن العالم يمر بعملية تصحيح للمسار الذي كان والذي جعل نتائج العولمة لا تتم بطريقة متساوية ومتكافئة، وفي نفس الوقت ساعدت عليه بقوة ظاهرة الهجرة الكبيرة التي تدفقت من أميركا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط على شمال أميركا وأوروبا عبر المتوسط، وكانت النتيجة أن وُلدت في مقابلها الشعبوية السياسية والشوفينية القومية التقليدية والحديثة والإسلاموفوبيا، وباختصار كراهية الآخر الذي جاء دون موعد وبثقافة وحضارة مختلفة وكثيراً ما تكون معادية؟».
الإجابة عن هذا السؤال، وهل هو الكساد الكبير لليبرالية والديمقراطية أو التصحيح السريع للمثالب التي تولدت في الممارسة والتطبيق، أو هو العيش في جزر منعزلة للأديان والهويات والثقافات، أم أن الإنسانية يمكنها أن تعيش في ظل قيم عالمية مشتركة تقوم على الحريات العامة وحقوق الإنسان والانتقال السلمي للسلطة؟ الإجابة أيضاً لا بد أن تبحث عن مدى عمق الظواهر والتطورات الراهنة والتي لم يعد الاقتصاد وحده هو المؤثر فيها، ولا التقسيم التقليدي بين اليمين واليسار، وإنما «الهوية» والقومية الشعبوية وما يسمى الظاهرة «الترمبية» التي قادت تمرداً تاريخياً على النخب الليبرالية في أميركا وفي العالم وباتت ملهمة للقيادات الأوروبية ومناطق أخرى من الدنيا. الترمبية كانت لها أصداء واسعة بحكم مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، ولكن الظاهرة نفسها كانت سابقة على ترمب، وعلى انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، حيث ظهرت مظاهرها في بولندا والمجر وفي الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي والتقدم الكبير لليمين القومي الشعبي في النمسا وألمانيا وإيطاليا، وفي تراجع التأييد العام بين الدول الأوروبية في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي باعتباره واحداً من أهم مظاهر العولمة وأكثر مشاريعها الليبرالية والديمقراطية في الهندسة السياسية تقدماً. ومع ذلك فإن فوكاياما لا يبدو يائساً رغم ما سجله من فوز لهنتنغتون، حيث يرى أن الدين والهوية وراءهما مسألة أكثر عمقاً وهي «الكرامة الإنسانية»، وهذه يمكن معالجتها إذا ما جرى بها ضرر أو جراح، بالتقدم الاقتصادي، والمشاركة السياسية، والمساواة الاجتماعية وظهور الحركات المعبرة عن النساء والشباب والتي ظهرت إرهاصاتها في العالم في حركات عابرة للحدود وذات رسالة عالمية.