د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا واستنساخ لليوجيركا

حراك المنظومة الدولية ومنها ممثلون عن الاتحاد الأوروبي إلى دعم اجتماع للقبائل ينعقد في الجنوب الليبي قد يكون محاولة لاستنساخ للوجيركا الأفغانية (اجتماع قبائل موسع ووجهاء ورجال الدين وسياسة وأساتذة جامعات ومفكرين في اجتماع أشبه باجتماع مصالحة عام) ولكن بنكهة ليبية، ومحاولة لإعادة إحياء مجلس الشيوخ، وهذه الخطوة قد تكون خطوة ناجحة لإعادة التوازن السياسي وخاصة التشريعي في البلاد، بعدما تم إضعاف البرلمان، بل وحتى القفز عليه وتغييبه عمداً، وتجاهل شرعيته وشرعية قراراته حتى من قِبل دول تزعم احترام الديمقراطية والأجسام المنتخبة، مما تسبب بوجود فراغ سياسي في ليبيا.
ولهذا فإن اجتماع القبائل خطوة مرحب بها وتعتبر صحيحة لإعادة التوازن السياسي المرتبط بالواقع المجتمعي وإدراك لفقه الواقع، ولكن يجب أن يكون وفق رؤية وطنية عامة، وليس ضمن توافق محاصصة قبلية، قد تنتهي بالبلاد إلى حرب أهلية.
ولكن يبقى السؤال، هل ليبيا فعلاً في حاجة إلى اللوجيركا للخروج من مأزق الفراغ التشريعي والدستوري والخروج بالبلاد من أزمة التناطح الحزبي بعد غرقه أو إغراقه في مستنقع الخلافات الآيديولوجية مبتعداً عن هم الوطن والمواطن متخبطاً في صراعات آخر همها الوطن.
فالمشهد السياسي الحالي قد تستطيع الأحزاب الفاقدة أصلاً للحضور المجتمعي الحل أو تقديم حل ممكن التوافق عليه، نظراً لاختلاف منهجها بدءاً من الخلاف على جغرافيا الوطن، وليس فقط على آلية إدارة الوطن وخاصة تنظيمات «الإسلام السياسي» التي مشروعها الخلافة وتصدير أفكارها خارج الحدود، والتي لا تؤمن أصلا بالدولة الوطنية.
اجتماع القبائل قد يكون بيدها الحل، أو تقديم رؤية وطنية، وهي التي سبق لها أن لعبت دوراً مهماً ومحورياً في تحرير البلاد من المستعمرين، وكذلك في رفض الإرهاب وتقبله ومنع أن يكون له حاضنة مجتمعية، وتوافقت القبائل على كتابة أول دستور ليبي، بينما الأحزاب لا تزال متعثرة في التأسيس، وتشهد صراع زعامات وأغلبها لم تستطع التوافق بين أعضائها وتحقيق قدر من الاتفاق أو حتى التوافق على إنتاج مشروع وطني قابل للتحقيق والتعايش، بل إن أحزاب «الإسلام السياسي» جاهرت بدعمها الإرهابيين واحتضانهم، بل وتوفير غطاء سياسي لهم، ولهذا فالقول بضرورة دخول الأحزاب للعملية الديمقراطية غير صحيح ومردود على أصحابه، فليس بالأحزاب وحدها تتحقق الديمقراطية، فالأحزاب تبقى في النهاية تنظيماً سياسياً يسعى إلى بلوغ السلطة، وهي مجرد أداة وإحدى آليات ممارسة الديمقراطية، وليست المنهج الأوحد ومن دونه تصبح باطلة، فمن الممكن قيام نموذج ناضج وسليم، فديمقراطية أثينا الأولى لم تعرف الأحزاب، ولهذا فالديمقراطية من الممكن تحقيقها بالأحزاب ومن دونها أيضاً. صحيح أن هذا ليس المعيار الأوحد لتقييم الأحزاب ومدى الحاجة إليها في ظل المرحلة الحالية، ولكنه يبقى ضمن قائمة مسببات الأزمة وتأخر الحل في ليبيا، بسبب انقطاع التجربة الحزبية لفترة طويلة وغياب الثقافة الحزبية، ولهذا في اعتقادي لنجاح الحل السياسي في ليبيا في المرحلة الحالية هو خلوها من ضجيج الأحزاب وصراعها المستمر.
صحيح أن الأحزاب ليست بالضرورة أن تكون إجهاضاً للديمقراطية كما يتبادر لذهن البعض، خاصة إنْ تمت ممارسة العمل الحزبي بروح الوطن، ولكن في الحالة الليبية كانت الأحزاب جزءاً من المشكلة وليس من الحل.
فالقضية ليست في كون الأحزاب ضرورة حتمية من عدمها، ولكن في كون تجربة الأحزاب في ليبيا لا تزال غير ناضجة، كما أن ليبيا ليس بها دستور ينظم الأحزاب ولا آلية لضبط التمويل وكشف التمويل الخارجي، ففي اعتقادي من الأسلم للوطن تجميد الأحزاب في المرحلة الحالية، حرصاً على الوطن، فالأحزاب أدخلت ليبيا في أزمة لا نعرف إلى أين نتجه، وننتقل من أزمة إلى أخرى بسبب صراعها الآيديولوجي والتعنت الحزبي، فعرقلت التنمية ومزقت المجتمع.
إن الواقع الحالي المتشظي والمتقطع، الذي صدق قول الله فيه «فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون»، يدفع نحو البحث عن الحل خارج دائرة الأحزاب، فللخروج من الأزمة لا بد من تجميد الأحزاب في المرحلة الانتقالية حرصاً على الوطن، فليس بالأحزاب وحدها تحقق الديمقراطية.