سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

أعداء الوقت

أعرف أن أخبار لبنان مملّة، لا جديد فيها. وأي جديد ليس سوى قديم ممسوخ. وبالتالي، فما الفائدة من المزيد من التأمل في صورة الجدران الفارغة، والطرق المسدودة، وجبال اليأس المكدّسة. يكتب المرء في الشؤون اللبنانية فقط كمن يسجّل حق الملكية في الدوائر الرسمية. ضمن العيب أيضاً أن تتجاهل المحنة التي تطبق على اللبنانيين وتحشرهم أكثر فأكثر في ظلمة الأنفاق والمتاهات المتشابكة. لم أتأمل لحظة واحدة في الانتخابات الأخيرة، لأنني لم أتأمل قبلاً في أي انتخابات. غير أن الانتخابات الماضية جرت بموجب قانون من البِدع والبهلوانيات التي لا شبيه لها، لا في الدول البرلمانية ولا في الدول الديكتاتورية، ولا في دول بين بين. ومع ذلك انتظرنا مع من انتظروا النتائج، لعلها تأتي بحكومة تنزع من البلد صورة الشلل.
لا قيمة لشيء في لبنان، خصوصاً الغالي والثمين منها. وبما أن أثمن شيء في الحياة هو الوقت، فهو عندنا في قاع القِيَم والاهتمامات. فالرؤساء لا يُنتخبون إلا بعد مضي عامين ونصف على الفراغ. والحكومات لا تؤلف إلا بعد أشهر طويلة في المنازلات والثرثرة. وبرغم كل هذه القناعات والتجارب، ارتضينا وتأملنا. وحدث معنا ما يحدث دائماً: السياسيون يأخذون الوقت ويعطوننا الهباء.
اسمحوا لي أن أنقل لكم أكثر لوحة تطابق هذا الوضع المُزري والمُحزن. إنها فقرة مأخوذة من الألماني هاينريش هاينه: «فلستم وحدكم الذين تلقوا الوعود. طالما حدث في المراكب الكبيرة النقالة العبيد. وخلال العواصف المدمرة، وعندما يكون المركب في خطر الهلاك، يلجأ أصحابه إلى الاستغاثة والاستنجاد بالرجال السود الذين يتكومون في قعر السفينة، وأن يعدوهم بردّ حرِّيتهم إليهم إذا نجحوا بحماستهم ونجدتهم في إنقاذ المركب. ويهرع السود الفقراء البسطاء، وقد أفعمتهم الحماسة والنشاط تحت نور الشمس، ويمسكون بالمضخات ويزيحون الماء بقواهم، ويساعدون حيثما تقتضي الأمور المساعدة، ويقفزون وينطون ويلفون الأشرعة ويكسرون السواري ويظلون يعملون حتى يزول الخطر. وعندئذ، يقودهم أصحاب المركب، دون نقاش، مرة أخرى إلى قعر المركب ويربطونهم من جديد ربطاً محكماً، ويتركونهم في سجنهم المظلم يستسلمون إلى تأملاتهم الجدلية الفارغة حول الوعود التي قطعها لهم تجّار الأرواح، الذين تظل غايتهم الوحيدة، بعد زوال الخطر، أن يحتكروا أكثر مما احتكروا من أرواح الناس».