إميل أمين
كاتب مصري
TT

السعودية والفضاء... طريق صناعة المستقبل

ما أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل؟ المؤكد هو صناعته ودون الرجم بالغيب، فالعلم أصدق إنباءً من الكتب.
تمضي المملكة العربية السعودية في طريق المستقبل عبر رؤية نهضوية شاملة لا توفر في سعيها إعمار الأرض أو ارتياد الفضاء، ولعل موافقة مجلس الوزراء السعودي على اتفاقية مع روسيا الاتحادية للتعاون في مجال استكشاف الفضاء الخارجي، واستخدامه في الأغراض السلمية الأيام القليلة الماضية خير دليل على ذلك.
والشاهد أن علاقة السعودية بالفضاء ليست علاقة حديثة؛ ذلك أن الاهتمام بمجال الفضاء من الدولة كان ولا يزال أحد أهم الموضوعات التي تشغل تفكير صناع القرار والأفكار هناك منذ بضعة عقود، وقد كان الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز أول رائد فضاء عربي ومسلم يجوب الفضاء في رحلته عام 1985 مع المكوك الفضائي الأميركي «ديسكفري»، الأمر الذي أعطى لاحقاً زخماً إيجابياً فعالاً في مسار الاهتمام بتطوير المملكة للقطاع البحثي والتطوير التقني في ما يتعلق بأبحاث الفضاء.
تأتي الاتفاقية الجديدة مع روسيا الاتحادية التي لها باع وذراع طويلان في سبر أغوار الفضاء الخارجي كحلقة من حلقات الرؤية الشاملة للنهضة والتطوير الشاملين 2030. والتي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويعد فيها الاهتمام بالفضاء منطلقاً جوهرياً توليه الرؤية ذاتها قدراً كبيراً من الخصوصية لما فيه من فوائد غير محدودة سيما للأجيال السعودية القادمة.
الذين قدِّر لهم زيارة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في المملكة حكماً قدِّرت لهم رؤية ذلك الصرح العلمي الكبير «المركز السعودي للاستشعار عن بعد»، والذي يعد نواة لمعهد بحوث الفضاء، وقد كان الخطوة الأولى للتعاون الخلاق مع وكالة الفضاء الأميركية الشهيرة «ناسا»، من خلال بعثة المكوك الأميركي «تشالنجر» لاستكشاف صحراء الربع الخالي، ومنذ ذلك الوقت والمملكة تواصل مسيرتها في هذا المجال.
الاتفاق الجديد مع روسيا يدفع في إطار مشاريع مشتركة لا سيما في مجال رصد الأرض باستخدام الأقمار الصناعية العاملة في مجال الاستشعار الراداري والحراري للأرض عن بُعد، كما أنه يوفر للمملكة وسكانها معالجات رئيسية لمسائل الاتصالات والملاحة والأرصاد الجوية ورسم الخرائط وإنشاء بنية تحتية أرضية ملائمة.
لا تتوقف المملكة عند توقيع الاتفاقيات أو بناء مراكز الأبحاث، بل تعمل جاهدة على تدريب أبنائها عبر تخصصات علمية شافية وافية ليكونوا نواة حقيقية لجيل قادر على الصعود إلى الفضاء، وذلك عبر أقسام متخصصة في عدد من الجامعات السعودية التي تدرس هندسة الفضاء والهندسة الميكانيكية، وغير خافٍ على أحد ابتعاثها للمتميزين علمياً والموهوبين منهم إلى كبريات الجامعات العلمية الدولية، ليبقى سقف الطموحات السعودية دون حدٍّ أو مدٍّ.
حديث العلاقة بين المملكة وصناع المستقبل في الفضاء ليس مجرد تنظير فكري أجوف، بل هناك شواهد حقيقية على جدية الطرح من قبل، فعلى سبيل المثال قامت السعودية خلال العقد الماضي بتصميم وتصنيع ثلاثة عشر قمراً صناعياً بواسطة قدرات وطنية ذات كفاءة عالية، إضافة إلى إنشاء مركز تميز في أبحاث القمر والأجرام القريبة من الأرض مع «ناسا»، ومركز تميز أبحاث الفضاء والطيران المشترك مع جامعة ستانفورد الأميركية الشهيرة.
تعرف المملكة والقائمون عليها فائدة الاستثمار في البشر قبل الحجر، ولهذا تعطي جل اهتمامها للأجيال الشابة السعودية والتي ستقوم على تلك البرامج، وعطفاً على ذلك لا تتأخر عن الدخول في شراكات مع المجموعات الفضائية الدولية التي تقود مشروعات حقيقية ذات مردودات عالية في الحال والاستقبال مثل مجموعة «فيرجين»، التي وقّعت معها السعودية العام الماضي عقوداً لاستثمارات حالية ومستقبلية، تجعل الفضاء طوع أمر البشر، وللسعوديين نصيب وافر في ذلك المستقبل الأكيد، كما الحال في الحاضر أيضاً.
ويبقى السؤال البدهي على الألسنة: هل من أهمية خاصة للعمل على برامج استكشاف الفضاء بالنسبة إلى الإنسانية عامة والسعوديين خاصة؟
قبل رحيله عن عالمنا مؤخراً تحدث العالم الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هوكنغ عن حتمية انشغال واشتغال البشر على الفضاء وعمارته يوماً ما إذا رغبوا في بقاء الجنس البشري طويلاً، وحجته في ذلك أن الأرض باتت بالفعل مهددة بالانفجار من جراء ظواهر تغير المناخ، والاحتباس الحراري، وذوبان القطبين الجليديين الشمالي والجنوبي، وجميعها بشكل أو بآخر قد تسحق وتمحق الحضور الإنساني على هذا الكوكب الأزرق الذي كان مثالاً للجمال يوماً ما.
غير أن البعض يحاجج بأن هذا طرح بعيد جداً وربما يقتضي حدوثه مرور آلاف السنين، ولهذا فإن هناك من الآراء التي تبين أهمية ارتياد الفضاء واستكشاف مجاهله، بل استغلال ما فيه من موارد وخيرات، ما يؤكد حتمية الحاجة إلى الصعود للفضاء من دون إضاعة وقت، الأمر الذي تقْدم عليه كبريات الدول ولا تحجم تحت أي ضغوط مالية.
يتوقع جمهور العلماء أن يصبح الفضاء خلال ربع إلى نصف القرن القادم مصدراً رئيسياً للطاقة والغذاء، وهناك من شركات الأدوية العالمية من يذهب إلى قيام صناعات دوائية بعينها لا سيما النادرة منها عبر الاستفادة من موارد توفرها بيئة الفضاء ولا يوجد لها نظير على الأرض.
ولعل المتابع للمشهد الدولي في حاضرات أيامنا يستطيع أن يرصد حالة السباق على استغلال الفضاء، وبينما البعض يحاول من خلاله تعظيم الاستفادة علمياً وإنسانياً، نشهد البعض الآخر الذي يصر على استغلاله عسكرياً، وليس أدل على صحة ما نقول به من عودة الولايات المتحدة لإحياء برنامج حرب الكواكب أو النجوم من جديد.
يمكن للبرامج الفضائية أن تعظم من استفادة المملكة من خيراتها في العديد من المجالات، فالأقمار الصناعية والاستشعار عن بُعد يرصد ويكتشف يوماً تلو الآخر منابع المياه الجوفية في الصحراء، وأماكن وجود آبار النفط وحقول الغاز التي لم تُكتشف بعد، ومتابعة حالة البحار، وتآكل الشواطئ أو التلوث بأنواعه، والأراضي الصالحة للزراعة، كما أن الأقمار الصناعية عينها هي عيون تخدم الأمن القومي السعودي، في منطقة بها من الأعداء والمتربصين الكثر ونياتهم غير خافية على أحد.
المستقبل يُصنع الآن في المملكة على الأرض، وبالقدر نفسه يتم السعي إليه في الفضاء.