خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من مقالب الحديث الحداثي

الحداثة ميدان مفتوح لشتى المقالب، وهذا هو المزعج فيها. السبب في ذلك واضح، فللمدارس الكلاسيكية أسسها ومقاييسها، نطبقها على العمل أمامنا فنعرف صالحه من طالحه. وهذا لا ينطبق على معظم منتجات الحداثة، التي تقوم أساساً على خرق المقاييس والقواعد دون أن تأتي ببديل لها؛ هذا هو الشيء المزعج فيها، ولكنه أيضاً الشيء المؤنس.
لقد فتحت الأبواب بفضل ذلك للهازلين والمازحين والساخرين ليغذونا بشتى التقليعات والمفارقات والمقالب على حساب الممارسين للحداثة. والواقع أنني أستغرب، وعندنا المزيفون وعباقرة النصب والغش في عالم الصحافة العربية والفكر العربي، أن أحداً منهم لم ينصب كميناً يوقع به فناني الحداثة. سيكون ذلك نزهة رائعة لنا تخفف عن كاهلنا شيئاً من هذه الأحمال البغيضة التي كلكلت بها على أكتافنا أحداثنا السياسية.
الـ«بي بي سي» من أكثر المؤسسات احتراماً ورزانة، وهي أيضاً مسؤولة عن تبني كثير من الأعمال الأدبية والفنية. ومع ذلك، فقد خطر لبعض المارقين فيها أن ينصبوا فخاً للنقاد الموسيقيين الذين كانوا يجلسون ويتشدقون ويتناقشون بكل جد في الأنغام والنقاط والنقاط المقابلة و«السكيرتو» و«الأداجيو»، ونحو ذلك مما يتصل بآخر الأعمال الموسيقية الحداثية. سجلت هذه النخبة من المارقين شريطاً لضوضاء اعتيادية مما يحصل في أي مطبخ أو مطعم مزدحم أو حمام عمومي، ودعوا النقاد لسماع هذا العمل الموسيقي لمؤلف أجنبي. جلس هؤلاء في استوديو الإذاعة، وراحوا يستمعون للشريط بكل جد واهتمام، يهزون رؤوسهم استحساناً أو انتقاداً، ثم انطلقوا يتناقشون بشأن مميزات هذه القطعة المعزوفة... في حسناتها وسيئاتها... إلخ. وانفجرت الفضيحة عندما كشفوا لهم عن حقيقة الأصوات التي سمعوها!
كان هذا واحداً من عشرات المقالب التي نصبها الساخرون والمعارضون للحداثة لأصحابها ودعاتها. وفي حالات أخرى، قام الفنان نفسه بالمقلب على نفسه، كما فعل الموسيقار جون كيج، عندما دعا الجمهور لسماع آخر قطعة من مؤلفاته. اشترى الجمهور التذاكر الغالية، ودخلوا القاعة لسماع عمله الجديد الذي سماه «3 - 4». جلسوا ينتظرون، وبعد أربع دقائق وثلاث ثوان من الصمت والانتظار، صعد جون كيج على المسرح ليشكر الحاضرين على استماعهم لقطعته الجديدة «3 - 4»، ثم صفق لنفسه ونزل؛ هذا هو عمله الجديد: أربع دقائق وثلاث ثوان من الصمت المطبق!
كان هذا في أميركا. وفي فرنسا (بلد المقالب والتقليعات)، انبرى أديب شاب فتناول رواية قديمة للكاتبة الشهيرة مرغريت ديورا، لم يعد يتذكرها غير القليلين، وغير فيها قليلاً، وأعطاها عنواناً جديداً، وقدمها باسمه لدور النشر، فرفضوها جميعاً. وانفجرت الضجة عندما أعلن عن أصلها.
لن يتسع هذا العمود، ولا هذه الجريدة، لاستعراض كل حكايات المقالب والتقليعات التي تمخضت عن الحديث الحداثي من الفنون والآداب المعاصرة، حيث ضاع الجمهور بين طياتها، ولم يعد أحد يستطيع التمييز بين الغث والسمين.