داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

حديث في السياسة وليس في السينما

لم يعد أحد يهتم بأدب الحرب، من قصص وروايات وأحداث، إلا إذا تحول إلى أفلام سينمائية ضخمة، كما تفعل هوليوود وروسيا واليابان والصين. ولولا السينما الأميركية والروسية التي حولت رائعة الروائي الروسي ليو تولستوي «الحرب والسلام» إلى فيلمين كبيرين من مدرستين فنيتين مختلفتين، لظلت رواية تولستوي مجلدات على رفوف المكتبات أو رسائل دكتوراه في الجامعات. تعود الرواية إلى عام 1869، واستولت عاماً تلو آخر على ألباب الملايين حول العالم. كانت النسخة الروسية التي صورت في الحقبة السوفياتية آيديولوجية تنقل حرفياً مأساة الحرب وقيمة السلام، بينما كانت النسخة الأميركية تحفة فنية حشدت لها هوليوود نجوماً كباراً. إنه حديث في السياسة وليس في السينما.
وفي المستوى نفسه رواية «لمن تدق الأجراس» للروائي الأميركي إرنست همنغواي عن الحرب الأهلية الإسبانية التي جرت وقائعها في الأعوام 1936 - 1939. كان همنغواي مراسلاً حربياً يغطي أخبار الكرّ والفرّ والضحايا، فكتب تلك الرواية الرفيعة وحولتها هوليوود إلى فيلم خالد. وفي ذاكرة أفلام الحروب والجاسوسية: «وداعا للسلاح»، «كل شيء هادئ في الجبهة الغربية»، «الدكتور زيفاغو»، «مدافع نافارون»، «كازابلانكا»، «أطول يوم في التاريخ»، «المواطن كين»... ومئات الأفلام الأخرى.
معظم أفلام الحرب تُمجد الانتصارات، وهذا أمر طبيعي. لكن فيلم «الجسر» من إنتاج عام 1959 يصور جنون الحروب ويستعرض على مهل مذاق الهزيمة المرّ من خلال متابعة عدد من المراهقين الألمان خلال الحكم النازي الذين تركهم الجيش الألماني وحدهم يدافعون عن أنفسهم.
ليست كل أفلام الحروب معارك وقتالاً وانفجارات وضحايا. فيلم «والد الجندي» الروسي من الأفلام المعادية للحروب، ويركز على علاقة قوية بين أب مزارع وابنه بعد أن يغادر قريته وينتقل إلى الخطوط الأمامية على الجبهة محاولاً العثور على ولده الجريح. أما فيلم «جسر على نهر كواي» فهو ليس مجرد فيلم حربي، بل فيلم يحكي الإرادة والقدرة على النجاة في منطقة حرب بعيدة ومعزولة، ولذلك استحق بجدارة 7 جوائز أوسكار عام 1958.
إذا تحدثنا عن أفلام الحرب «الإنسانية» فلا بد أن نتحدث عن «إنقاذ الجندي ريان» من إخراج ستيفن سبيلبرغ، وقد نال الأوسكار. هل تعلمون أن هذا الفيلم استخدم فيه المخرج 40 برميلاً من الدماء المزيفة، وشارك أكثر من 1000 شخص في تصويره، وكلف 11 مليون دولار لإنتاج هذه التحفة؟!
كل تلك الأفلام العظيمة كانت قصصاً وروايات ويوميات إنسانية على الورق، حولها مخرجون عباقرة إلى أفلام حيّة. وهو ما يذكرني بقصص وروايات الحرب العراقية - الإيرانية التي لم يكن معظم كُتّابها يتخيلون أحداثها، بل كانوا جنوداً في الجبهات يتقاسمون الرغيف والماء والخوف والحزن والضحك والأمل. لكنها قصص ستذبل وتجفّ لأن السينما العربية لا تملك صناعة حديثة ومتقنة في هذا المجال.
دعوني أقدم لكم قصة قصيرة عراقية لكاتب مجهول عن ضابط شاب في الحرب العراقية - الإيرانية، ربما هو الكاتب نفسه، يحمل حقيبته بعد تخرجه من الكلية العسكرية ويغادر في قطار الليل إلى الجبهة. ولو توفر مخرج ممتاز قادر على تحويلها إلى فيلم سينمائي فستكون فعلاً هي رواية الحرب التي استمرت 8 أعوام ضاعت فيها على البلدين أرواح وآمال وأحلام لم تتحقق.
الحقيبة التي حملها الضابط معه، وهي بطلة القصة، تشبه إلى حد ما موضوع قصة قصيرة تحمل عنوان «الأشياء التي حملوها» للكاتب الأميركي تيم أوبراين، وتحولت إلى فيلم يحكي أحداثاً من حرب فيتنام بين القوات الأميركية و«الفييت كونغ» وهي القوات الوطنية الثائرة على الاحتلال الأميركي. وهذه الأشياء التي حملها الجنود في حرب فيتنام، من الجانبين، ليست حقائب ملابس وأدوية بسيطة وبعض صور الأهل، لكنها تحمل الآلام والمعاناة والذكريات والرسائل والصور ومشاعر الخوف والأمل والحزن والوحشية. الحقيبة هي رفيقة كل ضابط وجندي في الجبهة.
إليكم قصة ضابط عراقي من ألوف الضباط، وهي قصة عجيبة وغريبة، دراما وكوميديا...
تخرج (س) من الكلية العسكرية مع بداية الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980، وبعد أن أكمل «دورة الصنف» صدر أمر بنقله إلى إحدى وحدات الجبهة، فكان أول تعيينه في إحدى فرق المشاة في البصرة. ذهب إلى محطة القطار الكبرى في بغداد مساء بعد أن سلم على أهله حاملاً حقيبته في يده. صعد إلى قطار البصرة ووصلها صباحاً. سأل عن فرقته فقالوا له اذهب إلى جسر خالد. وصل إلى الجسر وحقيبته في يده. سأل أحد منتسبي الانضباط العسكري عن فرقته فقال له اصعد في سيارة نقل الجنود الكبيرة وستوصلك إلى مقر الفرقة. وصل إلى الفرقة وحقيبته في يده. دخل على مدير إدارة الفرقة فأدخله إلى رئيس أركان الفرقة وتم تنسيبه لأحد الألوية. ذهب إلى مقر اللواء وحقيبته في يده. قابل آمر اللواء رحب به قائلاً: جئت في وقتك. وتم تنسيبه إلى أحد الأفواج، فصعد إلى سيارة «الأرزاق» والتموين ووصل إلى الفوج وحقيبته في يده. قابل آمر الفوج فقال له: الله بعثك إلينا، ثم نسبه إلى إحدى السرايا في حافات الحدود، فذهب إلى آمر السرية وحقيبته في يده. كرر عليه الجملة المعهودة «الله بعثك»! ثم أمره بتسلم أحد «الحجابات الأمامية»، ونصحه أن يحني رأسه لوجود قناص في الجهة المقابلة. ذهب إلى الحجاب وسلم على الضابط الوحيد والجنود وحقيبته في يده. فجأة سقطت قذيفة هاون عليهم فأصيبت قدمه إصابة بالغة. وتم إجلاؤه إلى مقر الفوج وحقيبته في يده. وبسبب إصابته الشديدة نُقل إلى مستشفى البصرة العسكري وحقيبته في يده. أدخلوه إلى غرفة العمليات من دون حقيبته، وتمت إحالته فوراً إلى مستشفى الرشيد العسكري في بغداد. أركبوه قطار الجرحى وحقيبته في يده ووصل إلى المستشفى وأدخلوه إلى غرفة العمليات فبتروا قدمه وصار من معاقي الحرب. عاد إلى بيته وحقيبته في يده. اعتبروه من الأبطال لأنه من أوائل معاقي الحرب العراقية - الإيرانية. وأهداه رئيس الجمهورية سيارة ذوي الاحتياجات الخاصة، وصنعوا له قدماً بديلة. ثم أهدوه منحة قطعة أرض سكنية وراتباً تقاعدياً محترماً مع استمرار ترقياته.
وفي عز هذا المهرجان، وخلال عبوره أحد الشوارع صدمته سيارة تقودها فتاة فطارت قدمه الاصطناعية في الهواء فأغمى عليها. لقد بدأ للتو الفيلم الهندي. أدخلوا الشاب «المحظوظ» إلى المستشفى واهتم به أهل الفتاة خشية حبسها. تنازل عن الدعوى بعد أن أحبها وأحبته. قدم والد الفتاة لهما منزلاً مؤثثاً هدية في حي محترم في بغداد. وهو يعيش حالياً مع زوجته معززاً مكرماً في ولاية أريزونا الأميركية... بعد أن رمى حقيبته في غابات الصنوبر الباردة هناك.
ألم أقل لكم إن الموضوع في السياسة وليس في السينما؟!