صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

فعلاً... غزو الكويت كان البداية لما تشهده المنطقة!

أصبحت أزمة الخليج أزمة الأمة العربية منذ تفجيرها في الثاني من أغسطس (آب) 1990، حيث احتلت القوات العراقية الكويت وبدأ مسلسل الانزلاق نحو المجهول وما رافقه من قلق لم ينتهِ، بل بقي يزداد حدةً مع كل يوم وساعة، وحيث إن ما تمكنت أمتنا من تحقيقه في مطلع هذا القرن أصبح مهدداً بالزوال والاندثار... وإن هذا ما بقي يحدث بعد انتهاء فترة الحرب الباردة وفي الوقت الذي كان يعيش فيه العالم مرحلة انبثاق حقبة جديدة غدت تتشكل فيها ملامح نظام عالمي جديد وتوضع للعبة الدولية قواعد وقوانين تتشكل فيها ملامح نظام عالمي جديد.
وفي ظل هذه الأجواء ومع بواكير حقبة الأمل والوعد الجديد، تأتي أزمة الخليج بالشكل الذي تطورت إليه لتمتحن العالم في توجهه ونزوعه، وأقول العالم لأن أزمة الخليج تتمحور حول النفط الذي تحتاج إليه كل الشعوب، والذي يشكّل أكثر من أي وقت مضى أهم مرتكزات الحقبة الجديدة التي تتطلع فيها هذه الشعوب للعيش في عالم يسوده السلام والتعاون والبناء من أجل حياة أفضل للإنسان في منأى عن المجابهة والمنازعات التي أنهكته واستنزفت طاقاته في العهد الذي كان قد مضى.
وبناءً عليه فإن منطقتنا العربية، وفق مقاييس هذه الحقبة الجديدة، قد أصبحت ذات أهمية قصوى لهذا العالم ليس فقط بسبب موقعها واتساع رقعتها وحجم سوقها التجارية بل لمخزونها النفطي الهائل الذي يقدَّر بثلثي احتياطي النفط العالمي أو يزيد، وحيث ينعكس الاهتمام العالمي بمنطقتنا على أمور شتى من أهمها الحرص على استقرارها ضمن الأطر التي ترتضيها الدول الصناعية الكبرى ومنها محاولات التحكم في مسار نهوضها الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والعلمي والثقافي، بحيث ينسجم هذا كله مع تصورات هذه الدول ومطامحها ولا يتعارض مع (مطامعها)، ومنها تعزيز علاقاتها مع دول الجوار من غير العرب كي تبقى هذه الدول مصادر تهديد وإزعاج وابتزاز لهم كما هو الحال مع إسرائيل.
على هذه الخلفية جاءت أزمة الخليج، احتلال الكويت، لترى فيها الدول الكبرى والصناعية الفرصة الذهبية لإعادة تنظيم هذه المنطقة وفق مخططات خبيثة تتناسب مع تطلعاتها ومصالحها على حساب تطلعات الشعوب العربية ومصالحها، ولترى فيها أيضاً الفرصة السانحة لوضع قواعد اللعبة وترسيخها ولبلورة نمط التعامل مع منطقتنا في العهد الجديد... وإن ما أنجزته أمتنا حتى الآن، على تواضعه، ومهما كانت مآخذنا على الكيفية التي يعمل فيها نظامنا العربي حتى احتلال الكويت، فإن ذلك لا يبرر أيضاً التضحية به، ولا يبرر التضحية بالكثير الذي أنجزه العراق.
لقد جاء هذا في رسالة كان قد وجّهها العاهل الأردني الراحل الملك حسين باسمه واسم الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد وباسم العاهل المغربي الحسن الثاني إلى الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين الذي بالطبع لم يستجب لما تضمّنته هذه الرسالة وهو لم يردّ عليها فكان ما كان ووقعت الكارثة التي حذّر منها وتوقعها هؤلاء القادة العرب الثلاثة.
ولعل أهم ما جاء في هذه الرسالة التي كانت قد وصلتني قبل أقل من أسبوع بعد كل هذه السنوات الطويلة (28 عاماً) من «صديق» لم يذكر اسمه لكنني أعتقد أنه أحد كبار المسؤولين الأردنيين الذين كانوا شركاء في صنع المواقف والقرارات الأردنية الخطيرة والحاسمة في تلك المرحلة الصعبة: «ولا ريب أنَّ سيادة أخي يعلم بأننا ملتزمون بمبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة ليس من حيث المبدأ المُجْمع عليه عالمياً بل وأيضاً من واقع مواجهتنا للأطماع الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية... إذْ إن التهاون في الالتزام بهذا المبدأ وبخاصة في منطقتنا سيشكّل سابقة خطيرة تستفيد منها إسرائيل بكل ما ينطوي عليه ذلك من مضاعفات تهدد أمن الأردن ووجوده مثلما تهدد الأمن القومي بشكل عام... وكما تعلم فإن هناك إجماعاً عربياً على التمسك بهذا المبدأ الذي يعني عدم القبول بإجراء الضَّم وبخاصة إذا أدى إلى إزالة دولة قائمة وعضو في الجامعة العربية والأمم المتحدة.
إنني لا أرى أن أمامنا الكثير من الوقت، فنحن في سباق مع الزمن لتفادي الكارثة التي إنْ هي وقعت فإنها ستفتح المجال أمام الفريق الذي حاربنا لمدة ثمانية أعوام (إيران) ليكون أحد الأطراف المتربصة لوراثة العراق ولتسديد الضربة القاسية لما دافع عنه نيابةً عن أمته العربية وقدم في سبيل ذلك أغلى التضحيات... والحرب إذا نشبت فلا بد أن يكسبها في النهاية طرف مهما كانت خسائره... أما الخاسر الحقيقي فيها فسيكون نحن العرب المؤمنين بحق أمتنا في الحياة سواءً في بلاد الرافدين أو في أي بقعة من وطننا العربي الكبير».
وعليه واستناداً إلى ما جاء في هذه الرسالة الثلاثية فإن المؤكد أن غزو الكويت واحتلالها وإلغاءها كدولة، كانت وهي لا تزال رقماً رئيسياً في المعادلة العربية، كان بمثابة المبرر الذي وفّره صدّام حسين لكل هذا التمزق والدمار الذي تشهده هذه المنطقة، وكان البوابة التي دخلت إيران منها لتحتل العراق وتحتل سوريا وتفعل كل هذا الذي تفعله في اليمن وفي لبنان وأيضاً في غزة في فلسطين، فهذا البلد، بلاد الرافدين، هو جدار الأمة العربية الشرقي، وحقيقةً إن انهياره قد أدى إلى كل هذه الانهيارات التي تلاحقت في العالم العربي بأسره.
وهنا فإن هناك سؤالاً لم يُطرح سابقاً ولم يتم التطرق إليه حتى الآن وهو: لماذا يا ترى قد صمتت إيران على غزو صدام حسين للكويت واحتلالها، وكل هذا مع أن هذا البلد بحكم عوامل كثيرة أهمها العامل الجغرافي يعتبر بعداً أمنياً إيرانياً... هل يا ترى لأن طهران كانت تعرف أن هذا الغزو سيفشل لا محالة وأنه سيفتح المجال لها لتحقق ما لم تستطع تحقيقه في حرب الثمانية أعوام؟! وحقيقةً إنها بالتالي قد حققته، لا بل وأكثر منه بألف مرة!
لكن ومع ذلك فإن اختيار صدّام حسين لإيران، عدو الأمس واليوم، لـ«يُجْلي» إليها طائرات سلاح الجو العراقي خلال حرب عام 2003، يعني أنه لا بد من أن تكون بعض الطرق قد أصبحت بينه وبين دولة «الولي الفقيه» سالكة منذ عام 1990، وأنه ما كان من الممكن أن يرتكب حماقة غزو الكويت لو لم يحصل على ضوء ولو كان خافتاً من الولايات المتحدة، وأيضاً لو لم يحصل على موافقة وإنْ «صامتة» من طهران، ولعل هذا كله ما يفسر إرسال طائراته إلى هذا البلد الذي لم يكن صديقاً للعراق في أي يوم من الأيام... ومنذ المرحلة الصفوية وحتى الآن!
وهكذا وبالعودة إلى الرسالة الثلاثية التي كان قد أرسلها الملك حسين، باسمه وباسم العاهل المغربي الحسن الثاني وباسم الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد إلى صدّام حسين ولم يستجب لها وواصل احتلاله للكويت إلى أن أُخرج منها مهزوماً، نجد فعلاً أن ما تضمنته تحقق بالفعل، وأن غزو هذه الدولة العربية هو الذي فتح الأبواب على مصاريعها لكل هذا الذي جرى والذي يجري في هذه المنطقة وفي الشرق الأوسط كله من كوارث وحروب وتمزقات و«احتلالات» أجنبية أبشعها الاحتلال الإيراني.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه قد جاء في هذه الرسالة التاريخية فعلاً: «إن هذه الحالة، أي احتلال الكويت، هي الأولى من نوعها في ظل الأوضاع الجديدة السائدة في العالم، الأمر الذي لا يمكن أن يرضى به أحد لأنه في حال السكوت عنه سيغدو سابقة قد تشجّع آخرين في مناطق أخرى على اعتماده، مما سيؤدي إلى نشوب نزاعات وحالات من عدم الاستقرار في أقاليم متعددة في زمن يتجه فيه العالم نحو حل النزاعات لا تفجيرها، وهذا ما يفسر التوافق الدولي الواسع ووقوف دول كثيرة وراء الولايات المتحدة التي نعلم جميعاً أن لها أغراضاً مخفية غير هدفها المعلن».
والمهم في النهاية أن المعروف هو أن الولايات المتحدة بعد احتلالها العراق في عام 2003 وإسقاط نظام صدّام حسين قد فتحت الحدود العراقية للإيرانيين لتصبح إيران دولة محتلة لهذا البلد العربي، على نحو ما هو قائم الآن، وهذا كله كان قد تم في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي كان قد لعب أيضاً دوراً مثيراً للكثير من التساؤلات بالنسبة إلى الأزمة السورية.