إيلي ليك
TT

خطاب ترمب الأممي يرقى إلى مستوى إعلان المبادئ

خطابات الأمم المتحدة الرائعة تعود مرة أخرى.
غالباً ما تُصوَّر سياسات الرئيس دونالد ترمب الخارجية ككتلة من التناقضات غير المفهومة؛ فهو يقاوم الحروب الغبية التي أشعلها بعض أسلافه من الرؤساء، غير أنه لم يسحب جندياً أميركياً واحداً من أفغانستان أو العراق أو سوريا حتى الآن. وتراه يسخر ويهدد ويتوعد زعيم كوريا الشمالية الاستبدادي المطلق، وذلك ليلتقي به في وقت لاحق في سنغافورة حيث جمعتهما قمة غاية في الترف والفخامة. ويتودد ترمب أيّما تودُّد إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وترى حكومته تبيع الأسلحة والعتاد لخصوم روسيا وأعدائها بل وتعاقب كبار المسؤولين الروس.
وهناك بعض الحقائق التي تؤيد هذه الانتقادات، غير أنها تفتقر إلى نقطة غاية في الأهمية. في حين أنه يصعب كثيراً القول بأن هناك مبدأ مفهوماً بشأن دونالد ترمب، فقد ظهرت تيمة موثقة تعبّر عن سياساته الخاصة، ألا وهي: السيادة الأميركية.
وكانت هذه هي فحوى خطاب الرئيس الأميركي الثلاثاء الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقال ترمب في الخطاب: «إننا لن نسلم السيادة الأميركية أبداً إلى البيروقراطية العالمية غير المنتخبة وغير الخاضعة للمساءلة»، مشيراً إلى المحكمة الجنائية الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. وفي المقابل، تعهد الرئيس الأميركي باحترام حق كل دولة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة في متابعة عاداتها، وتقاليدها، ومعتقداتها، وفي الوقت نفسه لن تُملي على الولايات المتحدة كيفية العيش، أو العمل، أو العبادة. وحض الرئيس ترمب الزعماء والقادة المجتمعين على جعل بلدانهم عظيمة مرة أخرى.
وربما يبدو هذا الخطاب مألوفاً بدرجة من الدرجات، ولكنه يعد مختلفاً عن الماضي. فلقد تبنى رؤساء الولايات المتحدة السابقون، وبمستويات متباينة، منظمة الأمم المتحدة وغيرها من الجهات الدولية على اعتبارها من الوسائل التي تمكّن الولايات المتحدة من صياغة المشهد العالمي كما يتبدى لها. أما الرئيس ترمب، على النقيض من ذلك، فإنه يرى النظام الدولي أداةً من أدوات تقييد السيادة الأميركية على المسرح العالمي.
لأجل ذلك، فقد شدد الرئيس ترمب في خطابه على كيفية رفض الإدارة الحالية ما يُسمى «الآيديولوجيا العولمية». ومن أبرز الأمثلة على ذلك انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران لعام 2015. ولم يصادق مجلس الشيوخ الأميركي على هذا الاتفاق ولم يعتبره معاهدة، ولم يصوّت عليه أي عضو من أعضاء الكونغرس الأميركي، ورغم ذلك حصل الرئيس باراك أوباما على قرار يدعم الاتفاق من مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.
وهناك أمثلة أخرى. فلقد أعلن الرئيس ترمب أن الولايات المتحدة لن تشارك في ميثاق الأمم المتحدة العالمي بشأن الهجرة. وتفاخر السيد ترمب بأن الولايات المتحدة قد انسحبت بالفعل من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بعدما رفض ممثلو الدول الأعضاء الآخرون الإصلاحات التي تقدمت بها الإدارة الأميركية في هذا الصدد.
ولقد أشار الرئيس ترمب، وبشكل خاص، إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقلق الولايات المتحدة المعلن من تلك المحكمة ليس جديداً. ولم يحاول الرئيس جورج بوش الابن ولا الرئيس باراك أوباما التصديق على معاهدة روما التي تشكلت بموجبها هيئة ونظام تلك المحكمة. وفي وقت سابق من الشهر الحالي، ذهب جون بولتون، مستشار الأمن القومي في الإدارة الأميركية الحالية، إلى ما هو أبعد من ذلك بتعهده بفرض العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية ومقاضاة المسؤولين فيها إذا ما شرعت في التحقيقات بشأن الولايات المتحدة أو حلفائها.
كما أن لتأكيدات الرئيس ترمب مبدأ السيادة الأميركية تداعياتها المهمة على ملف التجارة الدولية. فلقد أشار في كلمته إلى منظمة التجارة العالمية والسماح للدول الأعضاء بالتلاعب بنظامها الأساسي لصالحهم من خلال المشاركة في إغراق المنتجات، وسرقات الملكية الفكرية (في إشارة واضحة وجليّة إلى الصين).
وبالنسبة إلى العديد من خبراء السياسات الخارجية، فإن حديث الرئيس دونالد ترمب عن السيادة الأميركية هو محض لغو وهراء. فلم تكن المؤسسات الدولية التي ساعدت الولايات المتحدة في إنشائها في أعقاب الحرب العالمية الثانية مصمَّمة فقط للحد من النزاعات، ودفع التجارة، وتعزيز الحريات، بل إنها تلاعبت بالنظام أيضاً خدمةً للمصالح الأميركية؛ إذ تملك الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) من بين خمس دول أخرى في مجلس الأمن الدولي. وهي تسيطر على أكبر حصة من الأصوات في صندوق النقد الدولي. ويوفر الجيش الأميركي الخدمات اللوجيستية، وسلاسل التوريد الموثوقة لعمليات حفظ السلام التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. ومن شأن الرئيس البارع أن يحاول استغلال النظام لصالحه، بدلاً من رفضه بصورة فجة ومباشرة.
ربما لذلك، الكثير قد حدث في أماكن كثيرة من العالم، ومنذ التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو قبل 73 عاماً. ولا يتعلق الأمر فقط بفشل الأمم المتحدة في منع اندلاع النزاعات بين الدول أو داخل الدول، بل يتعلق الأمر بأن الأمم المتحدة نفسها قد سمحت لأسوأ أعضاء المجموعة الدولية بارتكاب وقائع الفساد حيالها. ولهذا يشعر الكثيرون من أعضاء المنظمة الدولية بالخجل الشديد بعد أن اضطرت الأمم المتحدة إلى فتح ملفاتها بشأن برنامج «النفط مقابل الغذاء» العراقي، ولماذا عانت بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام من الفضائح الواحدة تلو الأخرى؟
الرئيس ترمب محقّ في نصف الأمر فقط: سوف تكون الولايات المتحدة في منتهى الحُمق والعبث إنْ سمحت للمحكمة الجنائية الدولية بالجلوس مجلس القاضي على جنود الولايات المتحدة. ويجب ألا تخضع الإجراءات العسكرية الأميركية لحق النقض (فيتو) من قبل الصين، أو فرنسا، أو روسيا، أو حتى المملكة المتحدة. ولكن، الخلل الهيكلي الذي تعاني منه منظمة الأمم المتحدة ليس التهديد المجرّد الذي تشكّله على سيادة الدول الأعضاء، بل إنه الاحترام والتعظيم الذي توليه لسيادة الدول الأعضاء المارقة على المسرح الدولي.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»