> ضئيلة وتعوزها الدقّة والتوثيق هي المعلومات المتوّفرة عن هجرة اللبنانيين والسوريين الأوائل إلى بلاد الأمازون الشاسعة هرباً من الاضطهاد والفقر، وسعياً وراء العيش الذي كان يضيق في بلاد المشرق العربي وتشحّ موارده تحت الحكم العثماني.
بعض المراجع يُعيد الهجرة الأولى إلى عام 1880م عندما قام الإمبراطور بطرس الثاني، آخر ملوك البرازيل قبل إعلان الجمهورية فيها- بزيارة إلى المنطقة العربية ونزل في لبنان ضيفاً على الكنيسة المارونية، التي شكت له مما كان يعانيه أبناؤها من ملاحقة واضطهاد على يد السلطات العثمانية. ويومذاك أعرب الإمبراطور عن استعداده لاستقبال الراغبين منهم في الهجرة إلى البرازيل، وتقديم التسهيلات والمساعدة لهم. ولقد توافقت هذه المبادرة مع السياسة التي كانت تتبعها الحكومة البرازيلية بعد الاستقلال عندما كانت في حاجة ماسّة إلى المهاجرين، ووضعت برنامجاً لتشجيع هجرة البيض والمسيحيين الذين راحوا يتوافدون بأعداد كبيرة من البرتغال وإسبانيا وإيطاليا.
إلا أن الهجرة الكبرى من البلدان العربية، التي كانت شبه مقصورة على السوريين واللبنانيين وبعض الفلسطينيين – من أبناء المناطق الخاضعة للحكم العثماني، ما جعلهم يُعرفون بـ«التوركو»، إي «الأتراك» – لم تبدأ حتى نهايات القرن التاسع عشر الميلادي ومطالع القرن الماضي. وتفيد الوثائق المحفوظة في أرشيف وزارة الداخلية البرازيلية، بأن المجموعة الأولى من المهاجرين العرب كانت تضمّ أكثر من عشرين ألف سوري وستة آلاف لبناني (في ذلك الوقت، كان لبنان يعني جبل لبنان أو «لبنان الصغير» بحدود ما قبل 1920) وبضع مئات من الفلسطينيين، معظمهم من أتباع الديانة المسيحية.
جدير بالذكر أيضاً، أن الهجرة من بلدان الشرق الأوسط لم تكن مندرجة ضمن برنامج الحكومة البرازيلية لتشجيع الهجرة من اليابان والبلدان الأوروبية؛ ما حرم المهاجرين العرب من المساعدات والتسهيلات التي كانت تعطى لغيرهم، وكان هؤلاء يواجهون صعوبات جمّة في التكيّف مع الواقع الجديد وشقّ طريقهم في مجتمع غريب لا يتقنون لغة أهله. كذلك، كان معظمهم من الفلاحين والمزارعين الذين تحوّلوا إلى التجارة، واستقرّت غالبيتهم في المدن الشمالية من وسط البلاد والحاضرة الأكبر ساو باولو.
في عام 1907 بلغ عدد المتاجر التي يملكها لبنانيون وسوريّون في ساو باولو وحدها 320 متجراً، أصبح معظمها في عشرينات القرن الماضي مؤسسات تنافس الشركات البرتغالية التي كانت تسيطر على قطاع التجارة في المدينة وتنشط في صناعة النسيج والأقمشة. وفي عقد الخمسينات من القرن الماضي دخلت الشركات التي يملكها المهاجرون من الشرق الأوسط قطاع الأغذية والتموين، وما لبثت أن سيطرت عليه في معظم المدن الكبرى. ويلفت الانتباه أن البرازيل هي الدولة الوحيدة في أميركا اللاتينية التي تنتشر فيها على نطاق واسع سلاسل المأكولات العربية السريعة التي يرتادها أهل البلاد الأصليون أكثر من المهاجرين أو المتحدّرين من أصول عربية.
بعد ذلك، في تسعينات القرن الماضي وصلت إلى البرازيل مجموعة أخرى من المهاجرين اللبنانيين تناهز 15 ألف مهاجر، وفد معظمهم – وجل هؤلاء من الشيعة – من جنوب لبنان الذي كان يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، انصرفت غالبيتهم إلى التجارة في المناطق الواقعة على الحدود بين البرازيل والأرجنتين والأوروغواي.
مع بداية الأربعينات من القرن الـ20 راحت تظهر وجوه وأسماء لبنانية وسورية في بعض المناصب النقابية والسياسية. ومنذ الستينات صار وجود عشرات البرازيليين المتحدّرين من أصل لبناني مألوفاً في مجلسي الشيوخ والنواب، وندر أن تتشكّل حكومة من غير مشاركتهم فيها. كذلك، تولّى الكثير منهم مناصب عسكرية وقضائية بارزة، ونشطوا في الميادين الفنية والثقافية والإعلامية، بينما كان بعضهم يتصدّر قوائم أصحاب الثروات الكبرى في البلاد التي كان أجدادهم «تجّار كشّة» * في مجاهلها وأريافها.
من الأعلام البارزين بين المتحدّرين من أصل لبناني في عالم السياسة، تاسّو جريصاتي الذي ترأس الحزب الديمقراطي البرازيلي ومجلس الشيوخ لسنوات، وجورج الحاج الذي تولّى حقيبة وزارة التربية مرات عدة، وباولو عقل، وجميل حدّاد، والفريدو أبو زيد، وجيلبرت كسّاب، وأنطونيو سليم، وجورج معلولي الذين تعاقبوا مراراً على وزارات العدل والصحة والعلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى باولو سليم معلوف الذي كان حاكماً لولاية ساو باولو ومرشّحاً لرئاسة الجمهورية التي يتولّاها حالّيا ميشال تامر، وهو أيضاً لبناني الأصل؛ إذ يتحدر من قرية بتعبورة في قضاء الكورة بشمال لبنان.
وفي المجال الأدبي والثقافي يُعتبر ميلتون حاطوم اليوم أبرز الكتّاب والروائيين البرازيليين، وخليفة خورخي آمادو الذي تكثر الشخصيات العربية في رواياته وأعماله الأدبية، وهو من الأسماء المرشحة منذ سنوات لنيل جائزة نوبل. ومن الأسماء التي لعبت دوراً بارزاً في الحركة الأدبية والثقافية في البرازيل سليم ميغيل المولود في قرية كفرصارون (شمال لبنان) والذي توفّي في عام 2016 عن 98 سنة، وكان رائد الحركة الفكرية في محافظة سانتا كاتارينا (جنوب البلاد) منطلق التيّارات الأدبية والفنية ومعقل حركات التغيير في البرازيل. وإلى جانبه أنطونيو عويس الذي شغل منصب وزير التربية، وكان من كبار الروائيين والمفكّرين.
> «الكشّة» هي المصلح الذي يُستخدم للدلالة على الصندوق الخشبي الذي كان المهاجرون اللبنانيون يحملونه ويجوبون به القرى والدساكر في الأرياف البرازيلية لبيع الأقمشة ومستلزمات الخياطة، وبعض القطع الخشبية والحجرية الصغيرة التي كانوا يدّعون أنها من الأراضي المقدّسة. ويعود أصل المصلح إلى عبارة Caixa، وتُلفظ «كايشا»، ومعناها الصندوق أو العلبة.
7:49 دقيقة
الهجرة اللبنانية ـ السورية إلى البرازيل
https://aawsat.com/home/article/1410481/%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%80-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B2%D9%8A%D9%84
الهجرة اللبنانية ـ السورية إلى البرازيل
الهجرة اللبنانية ـ السورية إلى البرازيل
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة