د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

جندرة اللغة العربية

محاولات بائسة ويائسة تخوضها بعض التجمعات النسوية لجندرة (Genderizing) اللغة العربية قسراً، بدءاً من اتهامها بالذكورية وتخصيص الخطاب، والزعم بـ«قصوره وبتحيزه» للذكور دون الإناث، في حين ذلك ناتج عن فهم خاطئ لتفسير الخطاب، وإن كان الخطاب مسؤولية المخاطب وليس اللغة، فالذكورية التي تُتَّهم بها العربية اصطُلح على أنها لفظ يعبر عن السلوكيات والأفكار والقوانين وحتى التفسيرات، التي تعبر عن سيطرة الذكور على الإناث بسبب التأنيث والتذكير في الخِطاب الأفرادي.
فاتهام اللغة العربية بالذكورية سببه عند البعض أنها تكونت في ظل قيم «ذكورية» كما يرى بعض متهمي اللغة العربية بالذكورية، مقارنةً باللغة الإنجليزية مثلاً، التي يزعم البعض أنها تخاطب الشخص بصفة لا تحتمل التذكير أو التأنيث، في حين أن هذا غير صحيح، فالتذكير والتأنيث صفة سائدة والخطاب في عمومه ذكوري، بسبب ذكوريّة الأنظمة السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة عبر التاريخ.
قد يكون الجهل بفقه اللغة العربية وقواعدها وتراكيبها وراء أسباب اتهام اللغة بأنها «ذكورية»، في حين أن اللغة العربية أُفردت عن غيرها من اللغات بتخصيص خطاب يخص المؤنث دون غيره، بينما بقي خطاب المذكر فيها شاملاً الجنسين دون تخصيص، في حين المؤنث في العربية يُخصّ ولا يُعمّ فعندما نقول مثلاً طبيبات، فهذا لا يشمل الذكور مطلقاً، بينما لو قلنا أطباء فإننا نعني الذكور والإناث، وبالتالي تعتبر اللغة العربية بهذا لغة أنثوية أكثر من كونها ذكورية. ومن الأمثلة على جواز التذكير والتأنيث للكلمة الواحدة في اللغة العربية، قوله تعالى «وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ» وقوله تعالى «كأنّهم أعجازُ نخلٍ منقعرٍ»، بل إن الخطاب القرآني الذي جاء بلسانٍ عربيّ فصيح، كان متزناً في مخاطبة الجنسين، قال تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، ففي اللغة العربية اللفظ الذي يوصف بـ«المذكر» هو في الأصل لفظ محايد، بل يخلو من أي دلالة على جنس الفاعل، بل ويصح للذكر والأنثى معاً، أي أنه يمثل الشّموليّة الجنسيّة شاملة للجنسين، ولكن اللفظ المؤنث في اللغة العربية هو المنحاز، لأنه يدل فقط على المؤنث ويُستثنى المذكر منه، وهذا من حيث الشّموليّة الجنسيّة أو حياديّة اللفظ.
فتطور اللغة وخلوّ الأسلوب الخطابي فيها من الخطاب الذكوري حتى من الضمائر والأسماء أمر له علاقة بالتأثير على تغيير المفاهيم المجتمعية الجندرية، ولهذا جارٍ البحث عن اللّغات غير المُجَنْسنة (degenderizing languages)، وهذا أمر صعب ويكاد يكون مستحيلاً إلا باستبدال مكونات اللغة من ضمائر وأسماء وأفعال، للوصول إلى مفردات حياديّة تُرضي بعض الحركات والجمعيات النسوية.
فاستخدام مفردات اللغة العربية في كتابات «ذكورية» منحازة مثلاً، يعاب على كاتبها لا على اللغة وتركيباتها اللغوية، فالخطاب في العربيّة يحدده جنس الخطيب والمخاطب، وما اللغة إلا وسيلة لا يمكن أن يعاب عليها أيّ خطاب كُتب بها، حتى ولو اتُّهم بالذكورية ظناً.
ولكن تبقى السياسة والمفهوم «الديني»، وليس الدين، هما من ينتجان خطاباً «ذكورياً» وليست اللغة التي ما هي إلا وسيلة تخاطب وفهم وتفاهم بين الناس.