بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

تُطفأ {الأنوار} ويبقى وهجها

الأرجح أن شارع صحافة لبنان ليس وحده، الذي أصبح أول من أمس، وقد غشيه ظلام مفاجئ، بعد قرار مؤسسة «الصياد» إطفاء أنوار جريدة «الأنوار»، والتوقف عن الإصدار الورقي لمطبوعاتها كافة. ربما من المبالغة، في زمن هيمنة الإنترنت وسطوتها، القول إن كل من لم يزل يدور في فلك الوثوق بدور باقٍ، ومهم لصحافة تصل للناس على صفحات من ورق، لا بدّ أحس بحزن لغياب مطبوعات «دار الصياد»، والأغلب أن الإحساس ذاته ساور مهنيين ذوي ثقافات مختلفة، يشعرون بالأسى إزاء الهبوط المتواصل في مستوى التحرير الصحافي، بفعل استقواء إخطبوط الإعلام الإنترنتي وما يُسمى وسائط «التواصل الاجتماعي».
مع ذلك، يجب القول إن ما أقدم عليه القائمون على مؤسسة «دار الصياد» يوجب الاحترام والتقدير، إذ هو إجراء شجاع غلّب مواجهة الواقع على الانسياق وراء العواطف. حقائق واقع صحافة الورق تسطع كما برقٍ يخطف الأبصار منذ بضع سنين، وليست تخطئه سوى عين الاجتراء على إنكار أرقام سوء التوزيع، وإخفاء حقيقة تراجع الطلب على أغلب الصحف والمجلات الصادرة عن عدد من كبريات دور الطباعة والنشر في مختلف أنحاء العالم. أمام هكذا واقع، فإن أصحاب القرار في دور صحافية تُدار وفق منهاج مؤسساتي، وتوضع الميزانيات السنوية لها على أساس حسابات الربح والخسارة، وليس من حساب دعم مالي منتظم يأتي من جيب نظامٍ أو حزب، يجدون أنفسهم في مواجهة وضع ليس يخلو من حرج، فإما ترك السفينة تغرق في بحر سوق متلاطم الموج، وإما شد الحزام وتنفيذ برنامج تقشف حازم، ولو تطلب الأمر الاستغناء عن خدمات موظفين كثر، أو، وهذا سيناريو أسوأ الحالات، إغلاق المطبوعة، والاعتذار للقراء بعد شكرهم على ولائهم، كما فعل فريق تحرير أسبوعية «نيوز أوف ذا وورلد» البريطانية، يوم صدر عددها الأخير رقم 8674 نهار 10 - 7 - 2011، رغم تباين ظروف الإغلاق.
شهر يوليو (تموز) الماضي، اكتشف أهل القرار في «ديلي نيوز» النيويوركية، التي تحمل شعار «New York’s Hometown Newspaper»، أنهم يواجهون هكذا موقف. النتيجة خبر في الصفحة الثانية من الجريدة ذاتها: إعفاء نصف العاملين من وظائفهم. الموظفون أنفسهم فوجئوا بالخبر، قرأوه مثل غيرهم من القراء. عذراً. ليس للعواطف أي مجال عندما يصبح من المحال جَسْر المسافة بين رياح خسارة تعصف بكل ربح محتمل، وبين «وداعاً» تقال لكل من أمسى موظفاً وأصبح عاطلاً. ألم يُقل منذ زمن بعيد إن السوق لا يرحم؟ بلى.
قرار «ديلي نيوز» في نيويورك ليس بلا درس لأوضاع السوق. يقول Karl Vick في مقال له حول الموضوع بمجلة «تايم»، عدد 6 - 13 الشهر الماضي، إن الدراسات تشير إلى أن 67 في المائة من الأميركيين تلقوا معلوماتهم، بما فيها الأخبار، خلال سنة 2017 عبر «السوشيال ميديا». هذا وحده يكفي سبباً لأن يهبط توزيع «ديلي نيوز»، في العام ذاته، إلى فقط مستوى توزيعها عام 1940 زمن أوج شعبيتها. هل يمكن القول إن ما أقدمت عليه إدارة «ديلي نيوز» النيويوركية ليس سوى توطئة لما أقدم عليه أصحاب القرار في مؤسسة «دار الصياد» البيروتية، بعدما تحملوا عناء الاستمرار في الصدور الورقي سنوات طويلة؟ ربما.
لماذا إحساس الحزن إزاء أي قرار يوقف صحيفة أو مجلة عن الصدور الورقي؟ هل هو التعارض مع عالم الإنترنت، ومن ثَم الإصرار على جمود التخلف، ورفض سنن التطور والتجديد؟ كلا، إطلاقاً. إنما القول بانتهاء أهمية المطبوعة الورقية، لأن البديل موجود في إعلام «أونلاين» عموماً، وليس الصحافة وحدها، هو قول، في تقديري، غير دقيق. ليس من اعتراض على أن تهب «غوغل» لنجدة كل من لم يتعب، أو تتعب، في الانكباب على أمهات الكتب والمراجع، إنما الاعتراض يتمثل، حصراً، عندما تسهم ثقافة «أونلاين» في التجهيل، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأجيال شابة، سواء عاملين في حقول الإعلام أو مُتلقين لما ينتجه أولئك الشبان والشابات، الذين يصر أغلبهم على التسليم بأن ما تزودهم به مصادر المعلومات عبر «غوغل»، أو «سوشيال ميديا»، كاف لتقديم مادة إعلامية دقيقة، بل وربما، وفق تصورهم، راقية. تلك، للأسف، خدعة تكاد تغدو من حقائق زمن إعلام الإنترنت. عود على بدء، بكل أسف تغيب مطبوعات مؤسسة عريقة بحجم «دار الصياد»، إنما سوف يبقى وهجها المهم علامة فارقة في مسار صحافة العرب من المشارق إلى المغارب.